كان ذلك في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول عام 2003.
حينما كنا نقيم ندوة علمية دولية كبرى تحت عنوان ” لسان الدين بن الخطيب وزير غرناطة ”
وذلك بالتعاون مع جامعة حلب ومعهد ثربانتس الأسباني في دمشق .
كان المشاركون في الندوة يزيدون على أربعين باحثاً أقبلوا من سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وإيران وتركيا وأسبانيا وفرنسا .
نزل الضيوف الباحثون في فندق كان يدعى ” ديوان رسمي ” في بيت عربي كبير وجميل يطل على قلعة حلب
وكنا في استقبال الضيوف .في صالة الفندق المفروشة على الطريقة الشرقية المحلية, أطلّ رجل مديد القامة, طلق المحيا, ذو وجه مُشرب بحمرة النضارة والحيوية, وشعر أسود كثيف, وعينين لماحتين توحيان بالثقة .
قدّم نفسه لنا : ” مانويل كاتشو ” سفير أسبانيا في سورية. وكان السؤال الأول الذي يمكن طرحه في هذه المناسبة : من أية مدينة في أسبانيا ؟؟. وصمت الرجل قليلاً, ثم قال : وهل تعرف أسبانيا أو زرتها لأدلك على مكان إقامتي فيها. قلت له : لقد زرتها عدة مرّات .
تهللت أسارير الرجل وقال : إنني أسكن على بعد سبعين كيلومتراً شرق جامع قرطبة, وركّز في حديثه على ” جامع قرطبة ” وليس المدينة .
قلت له : أنت إذاً من مدينة ” جيّان ” التي تسمونها اليوم بالأسبانية ” خايين “. قال : نعم أنا واحد من أبناء جيّان وأسرتي تقيم فيها منذ عدة أجيال .
تفرست في ملامح الرجل الشرقية, وكأنه آت ٍ من أحد الأحياء القريبة في مدينتي, وقلت له : هل تعلم بأنني جدك, وأنك حفيدي .
واتسعت عينا الرجل دهشة واستغراباً. ولكنني أردفت مسرعاً : لا تعجب فسوف أقص عليك القصة كاملة .
دخل العرب المسلمون الأندلس في خلافة الوليد بن عبد الملك عام 92 للهجرة ؛ الموافق 711 للميلاد . وكانت جيوش الفتح تمثل أجناد : قنّسرين, وحمص, ودمشق, وفلسطين, ومصر .
وفي عام 125 هـ في خلافة هشام بن عبد الملك ٠, تم تعيين وال ٍ على الأندلس يدعى ” أبا الخطّار, حسام بن ضرار الكلبي ” ورأى هذا الوالي تجمع الأجناد والقبائل في قرطبة وحولها, بحيث ضاقت بهم. فرأى أن يوزعهم على كُوَر الأندلس, وهكذا أرسل جند قنّسرين إلى ” جيّان ” ومن المعلوم أن منطقة قنّسرين قصبتها العظمى ومدينتها الكبرى حلب, فاستوطنوا هناك وتتابعت أجيالهم. وأطلق أبو الخطّار على جيّان تسمية ” قنّسرين ” .
كما أنزل جند حمص في أشبيلية, وأطلق عليها اسم ” حمص ” وجند دمشق أو ” جندجلّق ” كما ترد في المراجع العربية, أنزلهم في ” ألبيرة ” التي حلّت محلها غرناطة, وأنزل جند فلسطين في ” شذونة ” وجند مصر في ” تدمير ” وأطلق على هذه المدن تسمية أجنادها. ولكنها احتفظت بأسمائها الأصلية .
وتابعت الحديث مخاطباً السيد ” كاتشو ” : ألا ترى يا صديقي أن مدينتك ” جيّان ” هي ” حلب ” المشرق. وأن الجند والقبائل الذين نزلوا فيها أكسبوها طابعاً ديموغرافياً فريداً, وأنت حفيد هؤلاء الرجال الذين عاشوا في ظل التسامح وقبول الآخر وتحت مظلة حضارية إنسانية رفيعة .
وبما أنك حفيد هؤلاء الآتين من قنّسرين وحلب, وأنا أقيم في مدينة حلب منذ مئات السنين, فلا شك أنني الجدّ وأنت الحفيد !!
كانت ردّة فعل السيد ” كاتشو ” مريحة ومرحة, ولكنها توحي بالمفاجأة .. واستقبل الموضوع برحابة صدر, وإن كان الأمر نوعاً من الدعابة الإنسانية والتاريخية .
وتابعنا الحديث حول مدينة ” جيّان ” وجذور تسميتها, وقلت للسيد كاتشو إن كثيراً من المدن الأسباينة تحمل أسماءها الكنعانية الفينيقية القديمة مثل : برشلونة ـ قادش ـ أليكانت ( لقانت ) ـ مالقة … إلى جانب أسماء مدن لا تزال تحتفظ بالتسمية العربية الخالصة مثل : مدريد ( مجريط ) ـ سالم ـ بلد الوليد ـ ماردة ـ وادي الحجارة ـ ابن المدينة . طريف . جبل طارق . البسيط . تلجزيرة الخضراء .
والطريف في الأمر أن هناك قرية قرب مدينة أصفهان تحمل اسم ” جيّان ” وهي قرية الصحابي الجليل سلمان الفارسي, وقد عاد إليها بعد فتح العرب لأصفهان, وبنى فيها مسجداً, ولا يزال مزاراً على الأيام .
وهذا التطابق في الاسم لا يأتي مصادفة, ولعل التسمية الأندلسية ” جيّان ” جاءت من المشرق الذي كان على تواصل مع المغرب والأندلس منذ الألف الأول ق. م حينما كانت قرطاجة الفينيقية تحكم شواطئ المتوسط, وكانت أسبانيا جزءاً من مملكة قرطاجة الكنعانية الفينيقية .
ومدينة ” جيّان ” وردت في مجال التاريخ العلمي والأدبي, ويشير ياقوت الحموي في ” معجم البلدان ” إلى أن جيّان تبعد 17 فرسخاً عن قرطبة, وأنها أنجبت علماء منهم : الحسين الغساني الجيّاني الأندلسي المحدث المشهور .
ولكن أطرف قصص العلماء المتصلة بمدينة جيّان هي رحلة ” أبي الحجاج الجيّاني الأندلسي ” الذي ولد في جيّان عام 499 هـ ورحل إلى المشرق فاجتاز آلاف الأميال من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق, حيث استقرّ به المقام في مدينة ” بلخ ” ( الواقعة اليوم في أفغانستان ) في منتصف الطريق بين كابل ومزار الشريف .
وأقام أبو الحجاج الجيّاني بقية حياته فيها حيث توفي ودفن في بلخ عام 545 هـ. وفي رحلته الطويلة تلك لم يكن يحمل جواز سفر ولا تأشيرات مرور ودخول وخروج. وحينما وصل ” بلخ ” لم يطلب منه أحد تصريحاً أو ترخيص إقامة.. فقد كانت البلاد كلها رقعة واحدة تمتد على القارات الثلاث .
* * *
كان في المؤتمر العلمي عن لسان الدين بن الخطيب سبعة من كبار الأساتذة الأسبان وكان الصديق الدكتور كارلوس فارونا مدير معهد ثربانتس أحد أعمدة هذا المؤتمر .
وحينما سألني السيد كاتشو عن سبب اهتمامنا في حلب بلسان الدين بن الخطيب, على الرغم من وجود أسماء مدوية في الأندلس مثل : ابن رشد, وابن عربي, وابن حزم, وابن زيدون وقد أجبته : ( إننا أقمنا ندوات لهؤلاء الأعلام, وجاء الآن دور لسان الدين. ولا تنس أن لسان الدين بن الخطيب يرتبط بحلب برباط روحي وثقافي على الرغم من أنه لم يرها ولم يغادر منطقة المغرب, وهذه الرابطة تكمن في أستاذ لسان الدين الذي ترك غرناطة ورحل إلى المشرق وأقام في حلب حتى وفاته . إنه الشاعر الأندلسي ابن جابر وصديقه أبو جعفر .
وابن جابر هو الذي يصف حسناوات حلب بقوله :
تبسّمت, فتباكى الدرّ من وَجل وأقبلــت ْ, فتثنى الغصـن ُ ذا عجـب ِ
فقلت : من هذه الحسناء فاتنــة قالوا : كذلك شأن الغيد في حلب ِ