وقف المفتش أمام رئيسه المنهمك في قراءة أوراق أمامه ، أدى التحية وانتظر، سأله رئيسه دون
أن يرفع رأسه ودون أن يأبه بتحيته :
– هل من جديد ؟ أريد تقريرا مفصلا ونتائج سريعة .
– المشكل ليس في التقرير يا سيدي ، ولكن في النتائج .
– كيف ذلك ؟
– نماذج التقارير متوفرة ولكم واسع النظر في اختيار ما يتناسب والحالة التي نحن بصددها
ولكن بالنسبة للنتائج ….
– ما لها النتائج ؟
عرق بارد ينزل من تحت إبطي المفتش ويبلل قميصه ، ورعشة خفيفة تعتري أطرافه ، أجاب
بعد تردد قصير :
– ليست هناك نتائج سيدي …حاولنا بالطرق المعهودة مع مراعاة تعليماتكم فلم نحصل على
شيء .
– غير ممكن ، الرجل يبدو هشا ، وقد يكون به مس .
– لا أشاطركم يا سيدي الرأي ، فلو كان هشا لكنا حصلنا مبتغانا بسهولة ، أما عن المس ….
شجعه رئيسه على الإستمرار بانحناءة من رأسه
– فرضية المس ممكنة يا سيدي ، فكأنما نحن في عالم وهو في عالم آخر . لم يأبه حينما وقفت
سيارتنا بجانبه ، ولا حين قذفنا به داخلها . أدهشنا تصرفه وأغاظنا ، تمالكنا أعصابنا واصطحبناه
إلى المخفر حيث بدأنا باستجوابه . لم يكن الأمر هينا سيدي …فقد رفض أن يمدنا باسمه وباسم والديه
وبمقر سكناه ، واكتفى بالنظر إلينا كأنه لا يرانا ….نسينا تعليماتكم للحظة ، وأمرناه بخلع ملابسه
وأنتم تعلمون سيدي بأن خلع الملابس يهز أكثر القلوب رباطة لما يمكن أن ينتج عنه ، الناس تخاف
على عوراتها ، أتدري سيدي ما حصل ؟
حرك الرئيس رأسه بالنفي ، واستطرد المفتش :
– خلعها يا سيدي دون أن يرف له جفن ، ووقف أمامنا عاريا وفي عينيه نظرة غريبة ، مزيج من
الاحتقار والتحدي . لم أتمالك نفسي وصفعته صفعة قوية اصطكت لها أسنانه ، ترنح من وقع الصفعة
ولكنه لم يسقط ، خيط رفيع من الدم انساب على ذقنه مسحه بظاهر يده ثم تكلم ….أي والله سيدي تكلم
اغتبطنا جميعا وكأن كلامه غاية المنى ، نسينا ونحن المتمرسون أن الكلام لا يهم في حد ذاته وأنه
وسيلة للوصول لمرادنا ، استمعنا له ….كان صوته هادئا رزينا وهو يقول :
– رغم الصفع فالزمن تغير ، وأنتم سترمون في مزبلة التاريخ .
تصور سيدي لقد بدأ يتفلسف ولد ال….عفوا سيدي ، لقد أخرجني هذا الملعون عن أطواري . شيء
ما تغير بالفعل بدءا من السيارة .
تساءل رئيسه باستغراب :
– السيارة ؟
– نعم سيدي السيارة .
– ما لها السيارة ؟
– فقدت كثيرا من هيبتها ، كانت حتى وهي واقفة ، فارغة ، مدعاة للاحترام والتقدير ، أما إذا كنا
فيها فلا أحد يجرؤ على الاقتراب منها . أما الآن…
نظر رئيسه إليه بإشفاق ، هو نفسه في البداية لم يستسغ التعليمات الجديدة ، ليس لأنها معقدة ، ولكن
لطبيعتها الفجائية . حقوق الإنسان ، حرمة القانون ، حرية التعبير ، عناوين ضخمة لتغيير أريد له
أن يكون جذريا ، فاصلا بين مرحلتين . تناسى الجميع أن سنوات من العمل تورث صاحبها طبيعة ثانية
تغطي في كثير من الأحيان على شخصيته إن لم تلغها نهائيا .
أمر المفتش بالاستمرار في مهمته ، وبمحاولة فتح حوار مع المتهم بطرق حضارية تضمن تعاونه
للخروج بأكثر ما يمكن من المعلومات فالوقت لا يرحم .
أدى المفتش التحية وعلى وجهه حيرة كبرى ، ثم استدار لينصرف . استوقفه رئيسه :
– أعيدوا له ملابسه ، ليس من الضروري أن يبقى عاريا .
خرج المفتش دون أن يغلق الباب . لم يعد يفهم شيئا ، تجربة ثلاثين سنة من العمل أصبحت لاغية ….
أن يحاور المتهم بطرق حضارية !!.