(الورقة الثانية) 2
*******************
بعض المدن حين تصل إليها، تشعر بأنك لا تسير فيها على قدميك، بل تغوص في
أحضانها.
هذا ما أحسستُ به، وأنا أجول ببصري مندهشة بشوارعها، وأبنيتها الحجريّة
العتيقة، المستحدثة.
السيارة الآن تجتاز شارع بارون، هاهو الفندق الذي يحمل اسمه، يوشوش على
الطرف الآخر فندق غرناطة العريق ذي الإطلالة المؤنسة، والمقاهي والمطاعم،
المتناثرة بإبهارٍ، تزدان بروّادها. المحال التجارية تتلألأ كنجوم بارقةٍ في عقد الليل،
كلّ ما يخطر على بالك، تجده هنا: ألبسة، غذائيات، عصائر، مثلجات،
تحف،مكتبات، ودور سينما…
كلّها تصطفّ باشة في عيون أصحابها، رغم الازدحام الشديد الذي تغصّ به
الأرصفة.
لست أدري لمَ تسمّرتْ عيناي، عند واجهة بائع الورد، وطريقة عرضه الجذّابة!!!
خلت نفسي، بأني سوف أنثر باقاته المعروضة يوماً في بيتي، ورحت أضع نقاط
علام، لو أردت العودة إليه.
قطعنا ساحة سعد الله الجابري، المؤديّة إلى مدخل الحديقة العامة، كان الوقت
مساء..والجو ربيعيّ، نيسانيّ، يميل إلى البرودة، ورغم ذلك لفتني كثافة
قاصديها..ووقوفهم على أدراجها العريضة يشرون من الباعة الذين اهتموا بتزيين
عرباتهم، وقد اختلطتْ أصواتهم، بأصوات نوافيرها المتناغمة على إيقاع تنشرح له
النفوس.
زوجي / رياض/ لم يحفل بهذه المشاهد التي استطلعتها ـــ وكأني أدخل العالم
المسحور..فقد سبقني إليها أثناء التحاقه بالكلية الجوية، لمدة أربعة أعوام كانت كافية
لكي يحفظها شبراً، شبراً…فقد تشاغل عن تأملي، مستغرقاً بالحديث مع السائق، عن
مستجدات الشوارع، وشارات المرور، وتقاطع الطرق..
اجتزنا محطة بغداد، ومنها وصلنا أعتاب الأشرفية ، مكان سكننا الموعود، شعور
انتابني بأني كنت أعرفها قبلاً، في ذاكرة عميقة في الروح، فسرت إليها وكأنني
أقصد داري العتيقة التي ألفتها.
وجوه مريحة، كنت أقرأ بهدوء ملامحها، ولهجتها التي صرت ألتقط بعض
مفرداتها، كي أستعيرها، حين أضطر إلى مخاطبة أهلها..
وصلنا المنزل بسهولةٍ ، ويسرٍ، عقب اتصال مع ابن صاحب الدار، الذي جرت
الترتيبات معه مسبقاً على أن نحلّ مكان صديق لزوجي تمّ انتقاله إلى دمشق، في
نفس التاريخ، وعدنا بأن يبقي محتويات البيت على حالها، إلى حين طلبها، وليس
على عجلة من أمره.
استلمنا مفاتيح الشقّة التي تقع في الطابق الأول الفني..شبابيكها قريبة جدا من
الشارع، توزيعها رائع مستوفي الغرض، ما صدمني فيها خلوّها من الأثاث، إلا من
أريكة عتيقة، ولحاف صوفيّ، وبساط متواضع في زاوية الغرفة. لم تطل حيرتنا،
حين قرأنا ماكتبه صديق زوجي/ صلاح/ على ورقة ألصقها في منتصف الحائط:
آسف جداً، لقد استجدّ في الأمر ما جعلني أنقل المتاع، إلى بيت منفصل عن بيت
أهلي في دمشق.
مفاجأة لم نحسب حسابها، جعلتنا صامتين لبرهة ما ، ونحن نفكّر بمخرج لهذا
المأزق الماحسبناه.
طرقات على الباب، ابن صاحب الشقّة ذاته، كان يحادث زوجي، بينما كنت قد
شرعت في تفريغ حقيبة المؤونة على رفوف المطبخ سريعاً، دخل زوجي يحمل
صينية عليها أطباق شهيّة مجللّة بالخبز التنوري، أرسلتها لنا: صاحبة البيت / أم
عبدو/ كحسن استقبالٍ، وكرم ضيافةٍ، لمسافرين وصلا للتو، قد حلّ بهما تعب
المسير. متمنّية لنا طيب الإقامة، على وعد بزيارتنا حال حصولنا على قسط من
الراحة
تناولنا اللقيمات بصمتٍ مطبقٍ، وفكرٍ منشغلٍ، وبعد العشاء، كنا قد استعدنا أنفاسنا
قليلاً، بادرني زوجي السؤال:
ـ إيماااااااان ما رأيك ؟؟؟ ما الحل ؟؟ أفكّر في الاتصال بأهلي لجلب أثاث بيتنا في
دمشق، لا حلّ الآن في يدي غير ذلك.
ــــ لاااااا وكيف لو أحببنا الذهاب يوماً إليه، في إجازة، أو مناسبة ما، هل ننام عند
الآخرين؟؟؟
ــ إذن ماذا ترين ؟؟؟
ــ الحل في هذه ـــ ونزعت الإسورة الأثمن من معصمي ، وكانت هدية عرسي ـــ
نبيعها ..ونشتري ما نشاء
ـــ مستحيل هي لك …ليس من حقي
ـــ الذهب عندي آخر اهتماماتي، وهو عقدة لمثل هذه الحالات الطارئة، وسوف
يرزقك الله وتعوضها لي أضعافاً، والآن نم، ولغدٍ حديث آخر..
لمحت دمعة شفيفة في عينيه، كانت أكبر من أي كلمة شكر، ولما خلدت إلى النوم،
تناهى إلى مسمعي، أصوات الجوار، يتضاحكون يتسامرون، لم يصبهم النعاس كما
أصابنا، وقد حلّق بهم الطرب إلى الغناء مع صوت صباح فخري: يا بهجة الروح
زدني بالوصال، فتخبأت في عيون زوجي، أنتظر إشراقة شمس اليوم الأول في
ربوع حلب.
يتبع في الورقة الثالثة