درب حلب ومشيته

الورقة الأولى: (1)
*********************
حلب ..ما ذكرتك يوماً إلا واختلج في صدري صدى الذكريات، قصدتك يوماً، من
زمانٍ بعيدٍ، منذ أن قصصتُ ضفائري، ونضوت عني ملابس المدرسة، لأستبدلها ،
بثوب عرسي، أخطو نحو قفصي المؤبّد، متقمّصة دور سيدة البيت الراشدة.
أتاني زوجي يحمل خبراً، على قدر ما أدهشني، زلزلني، فقد تمّ نقل مجال عمله،
من دمشق، إلى حلب..وعليه الالتحاق قبل انتهاء المهلة المحددة بثلاثة أيام.
كنت طائراً زغب الجناح، انتقل من عشّه الأبويّ، إلى عشّه الزوجي، لا أعرف
سكناً غيرهما، ولا بعداً آخرَ، عن ماوراء حدودهما.
لم أنم ليلتها، وأنا أقلّب الأمور في خاطري، أتخيّل حلب، كان عليّ أن أفضّ ذاكرة
الطفولة، وأستبدلها بأخرى تستعدّ لمواجهة الحياة.
وكتبت أفكاري على ورقة ــ صارت صفراء، مازلت أحتفظ بها حتى هذه اللحظة ــ
:ـــــ حلب خذيني إليك، إني قادمة، آن الأوان أن أطير خارج أسواري.
وعندما شاع الخبر..تقاطر الأهل ، والأصحاب في بلدتنا الوادعة، يودعوننا،
ويزودوننا بالدعاء، ويرشقوننا بعبير أمانيهم، وببعض عبراتهم النقية كأمطار
السماء، لفرط صدقها.
أمّ زوجي ــ رحمها الله ــ انشغلت بتوضيب حقيبة الطعام..وكأنّ سفر برلك قد حلّ
ثانية، لم تترك من المؤونة صنفاً، إلا وقد حشرته غصباً، لتفسح المجال لغيره.
وعندما تحرّكت بنا السيارة قاصدة حلب، كانت دموع أمي على وجنتي، هي مابقي
لي من أثر دمشق، ونحن نبتعد رويداً ..رويداً عنها، عيناي تتشبثان بكلّ من حضر
يودعنا، علّها تعيدني إلى المدينة، ولكن السيارة أبتْ أن تتوقّف، كان لابدّ لها أن
تمضي، ..كما الحياة، عليها ألا تتوقّف عجلتها أبداً
وكلّما ابتعدتْ المسافة، كنت أزداد التصاقاً بزوجي، احتماء به، تهيّأ لي بأنه كبير،
وقوّي بما يكفي، لكي يعوّضني غربتي.
وأظنه قد أدرك اضطرابي، فأخذ يمسك بيدي، بين فترة، وأخرى، يهدهدني،
ويمنحني الطمأنينة، فأغفو لحظات على كتفه، أعانق باليد الأخرى، جنيناً في شهوره
الأولى، يتمطّى في فؤادي.
توقّفت السيارة بنا في محطات عديدة: احتسينا القهوة في النبك، كنت أرقب لهجتهم
على طبيعتها، بعفويتها، وصدقها، وهم يرحبون بنا، وفي حمص الوليد، التهمتُ
وجبة سريعة من الشطائر الساخنة، وطوينا المسافة بسرعةٍ إلى حماة أبي

الفداء:..حيث بادرني عنين نواعيرها بالاستقبال، حاملاً معه رائحة العاصي، فارتاح
قلبي..حيث لاحتْ لي وجوه أعمامي، وعماتي، وعشيرة من الأحفاد، وزّعتها مقادير
الحياة، إلى دروب شتى، ولكن أفئدتها مرتبطة بحبلٍ مقدّسٍ، سرّي، لا ينفصل عن
رحم جدّتنا الكبرى..
صرتُ أقرأ لافتات أسماء القرى التي نقطعها، والكيلوميترات التي تفصلنا عن
حلب..سرنا بمحاذاة إدلب..هنا سراقب ..هنا ..هنا باقي 10 كم ونصل إلى حلب.
قلبي يتسارع، هاقد لاحتْ لي عروس الشمال، أضواؤها على البعد تنادي من يصل
إليها: ـــ اخلع عنك غربتك، وادخل بأمانٍ، فأنت بين أهلك، أنت في حلب …

*******************
يتبع في الورقة الثانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top