ربان الحياة ….. والدي

أيام ..

بورتري ( ربان حياتي ) للمبدع Issam Ismandar
سبع وثمانون عاماً من الإبحار على متن سفن الحياة .. ولا يزال أبي ( مخائيل بولس الحاج – الخواجة أبو الياس ) وحده صاحب كل فضل وإلى هذه اللحظة على أولاده الأربعة .. وأولادي … أمد الله بعمره وحفظه وأدام عليه عافيته .. قوة قلبه وحنينه .
والدي ..
رجل كالبحر … في صمته حكمة .. وهو البحر .. المتباهي بنفسه وسيرته العطرة .. قدوتي في الحياة والمد والجزر .. مصدر قوة روحي وإلهامي .. إنّه سيّد الاحتمالات والحبُّ .. المصدر والمرجع لكل تفاصيلي خطواتي .. وحده المحافظ على العهدِ والوعدِ دوماً وأبداً.. ليس مثله خليل ولا رفيق في كل أيامي .

هو ربان الحياة الذي عرفت منه معنى حرقة الشمس لجبهة إنسان لم يعرف في حياته سوى العطاء الكلي لأسرته .. لأخوته .. للناس … لكنني كنت أحسها .. أتأملها في سمرة وجهه وساعديه ، حين يعود محملاً بأطيب وأشهى المأكولات والعرق يتصبب من كل جسده .. من رأسه حتى أخمص قدميه ، فتسرع القديسة أمي ( ست الحسن ) وتأخذ عنه بعض ما حمل ، ويدخل الحمام ليغتسل ، ثم قبل أن يتناول طعامه أو يأخذ قسطاً من الراحة ، لا بد أن يطمئن عن أولاده الأربعة بالسؤال عنهم فرداً فرداً ..
ولأنني كنت الشقي بين أخوتي ، فقد عرفت مبكراً حجم الهم والقلق والخوف على مستقبل صبي ينتقل في النهار الواحد من المدرسة إلى تدريبات المسرح ثم تدريبات السباحة وكرة المضرب وكرة اليد والقدم .. والأنشطة التي لا تنتهي .. وعرفت أن أجمل عطر أشتهمه ، رائحة يده حين أنحني وأقبله .. رائحتي حين يضمني بين ساعديه ، فالكون بأسره لا يضاهي سعة قلبه في حبه لأولده وأحفاده .
لقد أعتدت على سمرته .. الشمس التي تحرق جبهته كل يوم أكثر من سابقها ، والبرد الذي يلفح جسده في أيام الشتاء القاسية ..
إنه سيدي وتاج رأسي ، الذي لم يخبرني كيفيّة العيش، لقد عاش، وجعلني أشاهده، وهو يفعل ذلك في سنوات عمره يصارع أعمال البحر والمرفأ ( التخليص الجمركي – الترانزيت ) .. ثم أشاهده يدخل بيته كل يوم محملاً بكل ما يستطيع من حاجيات لأولاده فتعلمت منه معنى الكرم بلا حدود ومعنة مكانته في قلب أمي وأخوتي ، كونه الوحيد الذي فتحت بصيرتي عليه وإلى الآن يأخذ من نفسه ليعطيني كل ما تمنيته .. كل ما يملك من قوة جسد .. هنيئة الأيام .. روح الحياة … .. لذلك كان في نظر العالم أبي .. أما في نظري فهو العالم بأسره .
وإذا كانت القديسة أمي ( ست الحسن ) كل التضحية والصبر والحنان ، فهو وحده كان ولا يزال كل الأمان ، وهو الذي بنى الإنسان في قلبي وعقلي .. وعلمني كيف يبنى الإنسان في عالمه الصغير الكبير .
** نشر الكاتب البرازيلي الشهير “باولو كويلو” قصة قصيرة يقول فيها :
” كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة ، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته .. وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقة في الصحيفة كانت تحوي على خريطة العالم ومزقها إلى قطع صغيرة وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميع الخريطة ثم عاد لقراءة صحيفته .. ظاناً أن الطفل سيبقى مشغولاً بقية اليوم.. إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة ! .. فتساءل الأب مذهولاً : “هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا ؟!
رد الطفل قائلا :” لا.. لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة ،
وعندما أعدت بناء الإنسان .. أعدت بناء العالم”
كانت عبارة عفوية .. ولكن كانت عبارة ذات معنى عميق
” عندما أعدت بناء الإنسان…أعدت بناء العالم ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top