رحيل الشاعر صلاح ستيتة

 

صلاح ستيتية . . شاعر، باحث وناقد فني بارز

ولد في بيروت مفرق الطريق بين الحضارتين العربية والأوروبية – عام 1929 .
درس في باريس، بعد أن تابع، في المدرسة العليا للآداب في بيروت، دروس جابرييل بونور .
ولذا من خلال هذه المقابلة بين الشرق والغرب، منذ البدايات، يتبدى أن ستيتية عاش رغبة الوحدة بينهما،
وليس صدام التاريخ و/ أو الحضارة . ومع ذلك، لم تقده هذه المقابلة الى اختيار عالم في مواجهة الآخر وانما إلى التوفيق بينهما وصهر لغته الخاصة .

راغبا في رؤية، في هذا الحوض المتوسطي، فضاء ليس للحرب وانما للقاء، عرض في كتابه حاملو النار 1972 شعره ودرس بعمق الجذور الروحية للوطن العربي كما مستقبله .

تكلم أيضا فيه عن مفهومه للقصيدة: تكف عن أن تكون وصفا، مدونة، ابتكار مساحة، القصيدة ستكون ربطة القوى التي تستهلك في الحدث نفسه الذي يعقدها، وتصبح مواد لا مرئية وحقلا مغناطيسيا .

في نتاجه الشعري، نجد مكتسبات الشعر الغربي، ملكة القطيعة والابتكار الشكلي المتحول عبر الحب العربي للكلام الذي يجعل من كل قصيدة مقطع أغنية منذورة للا متناهي ومن كل كتاب إنشادا ولونا وتأكيدا صوتيا غير موجود في الفرنسية . دوما، تلهمه صوفية الحب التي تربط بلا انفكاك بين الألم والرغبة، الجرح والمتعة، وبالتالي القصيدة هنا دعاء شاك يجمع عذوبة الصور وقوة الترخيم الصوتي .

قصيدة صلاح ستيتية حسية واحتفالية في آن معا . وحركة شعره قريبة من الرسم اللا نهائي لفن الآرابيسك، حيث إن كل عنصر لا يحيا بمفرده عن العنصر الآخر ولكنها مندمجة ضمن إيقاع كبير مع عنصر آخر . وكما الأرابيسك أيضا، هذا الشعر ذو طبيعة خيميائية : يرفض أن يعيد إنتاجه أو يترجمه ببساطة . يسعى في بادئ الأمر إلى تنقيته، والى الحفاظ على جوهره: هذا التشابك للصور المختارة بعناية التي تعتبر، بالنسبة لصلاح ستيتية، نقاط تأمل باطني بين الذات والعالم .

صادق خلال الخمسينات من القرن الماضي شعراء عالميين من أمثال: جوف، ماندرياج، أونجارتي، بونفوا وآخرين . ثم أصدر في بيروت أسبوعية: الشرق الأدبي بالفرنسية التي لعبت دوراً مهماً في التقريب، والربط بين النزعات الإبداعية الغربية الحديثة، في فرنسا تحديداً، وتفجرات أنواع الكتابة الحديثة في الشرق، والوطن العربي خاصة .

في فرنسا، أسهم في الكتابة بمجلات عدة منها: الآداب الحديثة، ميركور دو فرانس، المجلة الفرنسية الحديثة، ديوجين . . وكدبلوماسي، عمل في اليونسكو في باريس، وعمل سفيراً في المغرب، وسكرتيراً عاماً لوزارة الشؤون الخارجية في بيروت، وسفيراً في لاهاي، وهكذا ظل طوال حياته: المتجول الكبير للحلم والفعل .

في عام 1995 حاز الجائزة الفرنكفونية الكبرى .

من نتاجه الشعري: حملة النار (1972)، الماء المحفوظ (1973)، شذرات ( 1978)، انعكاس الشجرة والصمت (1980)، الكائن الدمية (1983)، ليل المعاني (1990) .

من حوار له :

أنت شاعر عربي، ولدت في لبنان لأب شاعر، مسلم، وتكتب منذ فترة طويلة بالفرنسية . بعناصر بيوغرافيتك ومن دون شك كنوز حميمية ولكن كيف تراها لما يتعلق الأمر بتعريفك؟

نحن جميعا مرتبطون بعناصر ظرفية . إنها نقطة انطلاق ما هيتنا . حرية الانسان النسبية للغاية، كما الحياة، تتجاوز هذه الظروف . لا تفسر العناصر المتناقضة للهوية الحدثية التحقق الأدبي أو الفلسفي .

هذا لا يكفي للتعريف بالشاعر؟

هذا لا يكفي للتعريف بالانسان . الانسان مكوّن من عناصر مفروضة، ولكن أيضا بواسطتها من الممكن أن يتحرر . كان أبي وأمي شاعرين . كان أبي يكتب، أمي تسمع، تستحسن، ترفض . الطفل الذي كنته كان مبهوتا . فيم يتحدثان؟ أنه الأصل، نقطة انطلاق؟ من دون شك، عشت في وسط كان الكلام حاضرا في أرجائه . والطفل كان حساسا ازاء التأثيرات الأولى . لدى نرفال وبودلير الحق لما قالا أن سر القصيدة يقبع في مرحلة الطفولة، كما الحياة . كنت مقتنعا بكون الحياة والقصيدة يغترفان من المنبع نفسه .

أسئلة

هل الحياة والقصيدة حميميتان؟

تسائل القصيدة الحياة والخفايا التي تحيكها . الأسئلة تحيطنا: لماذا نحن هنا؟ العلم يجيب أكثر فأكثر عن كيف . في الواقع، نعرف بصورة فضلى آليات العالم، الجسد والأشياء التي اعتقدنا يوما ما أنها لا وزنية: الحب، على سبيل المثال، هناك الكيمياء بداخله، تتأجج لماذا . لماذا الميلاد، الحب، الحياة، الشيخوخة، الموت؟ هذه العناصر قائمة عند نقطة انطلاق الحياة، ولكن أيضا مع خلق العالم . قال الكثير من الفلاسفة بذلك، حياة العقل تتغذى بالضرورة، على هذه المشاكل غير المحلولة التي يواجهها الوعي بلا دون توقف . الانسان يريد أن يفسر كل شيء بأي ثمن . وهكذا نصبح شعراء، رسامين، فلاسفة أو معماريين . تمتزج الحياة والشعر لدى المهمومين بالبقاء في حالة من النفوذية، من الجروحية، من القدرة على مساءلة الحياة والأسئلة التي تطرحها . كل هذا يتأتى الينا بالحدس . في المقابل، حينما نتراجع وننشأ في التحليل، نلج عالم الثقافة . وفي هذا الشأن، من الممكن أن يكتب فالتر بنيامين: كل فعل ثقافي هو فعل عنف . الثقافة تقابل بمصطلحاتها كل ما يلمس علاقات الانسان: مع العالم والمجتمع والناس أو المستقبل . هذه العلاقات، المتأملة مرة، تؤسس الثقافة التي نغترف منها . الثقافة، منذ البداية، ابنة الحدس .

مرحلة الطفولة حفظ لكل ما سيعطيه الطفل للرجل على مدار الحياة، حينما يكون طفلا حساسا ازاء الشعر، أنه في حالة طفولة نوعا ما، يمد يده الى الطفل الذي حققه . كنت على سطح بيت العائلة وأطرح على نفسي أسئلة عن سماء الشرق المرصعة بالنجوم . اليوم، وقد بلغت الثمانين من عمري، تسكن هذه السماء رأسي والسؤال نفسه مطروح أمامي .

نشر جزء من نتاجك غير معنون في مكان الحرق . فضلا عن ذلك، في الافتتاحية كتبت بيد أن كلمة واحدة لم تهجرني أبدا، كلمة حرق ( . . .) .

نعم، ما هو الحرق؟ النار حالة مضطرمة بداخلنا . النار عنصر ألم فيزيقي . على السطح الأسطوري، المجازي، النار فوران، انفتاحة الى مضمون خارجي يصبح داخليا . نحترق بنظرة، بذكرى، بالنسبة لي، لا شيء يستحق الاحتفاظ به سوى لم تنجح النار أو الشعلة في اختزاله . أطلقت الفلسفة العربية الوسيطة على هذه الحالة الحلية . في هذه الجدلية القائمة بين النار التي تفنى والنار التي تطهر يتموضع المكان . ومع ذلك، ما تحول الى رماد حامل لأمل انطلاقة جديدة، اندفاعة جديدة : التخلص من كل ما هو عديم الفائدة والتكثيف في الجوهري . لدي، مكان النار مكان الجوهري .

أهناك نداء الى بعد الكينونة، نداء الى الذات؟

ليس هناك سوى هذا! لكي تعانق الكينونة الى حد ما أيا كان الأمر، من اللازم التخلص من عوائق الكائن . دوما، أتذكر هذا القول المأثور لرونيه شار، اذا سكنا وميضا، أنه مكان الأبدية . في كلمة وميض” هناك النار . هكذا يرجع هذا المكان، مكان الحرق، الى خيالنا .

أن تحب الآخر، أي أن تحب أن تتخيله وتحب أن تكون متخيلا من قبله: أنه بورتريه الغيرية؟

نعم، أعتقد أننا لا نستطيع أن نكشف أنفسنا الا عبر الآخر . الآخر كشفي وأنا كشفه، وكلما تقدمت في العمر، كلما زادت هذه البداهة في داخلي . انسان منعزل انسان ضائع . في بعض الأحيان، حكيت هذه الحكاية المأخوذة من ألف ليلة وليلة، وهي الحكاية التي أثرت كثيرا في بورخيس: أوقف شخص فيما يسرق خبزا . ذهب الى القاضي . لماذا هذه السرقة؟ أجابه، أنا أسكن القاهرة، وفي كل ليلة أحلم بثروة تنتظرني في بغداد . بعت تجارتي، واجتزت صحراوات شاسعة، حتى بلغت بغداد، ولم أجد ثروة . ومع مرور الوقت، أصبحت فقيرا، ومررت أمام منضدة الخبز ولم أستطع المقاومة . انفجر القاضي ضاحكا وقل لي أنا من يكلمك أنظر الي، أنا رجل عاقل ففي كل ليلة أحلم بثروة تنتظرني في القاهرة في منزل محدد: في وسط المنزل هناك صحن الدار، وفي وسط صحن الدار هناك نخلة وتحت هذه النخلة هناك كنز! هل تركت عملي لكي أبحث عنه؟ وأمر بعودة هذا الرجل الى بلاده! وخلال حديث القاضي كان الرجل يتذكر بيته، فلما رجع الى القاهرة، حفر أسفل النخلة المنتصبة في صحن الدار ووجد كنزا . من أهمية الحلم، نجد الذات الحقيقية . وجد أن بيته أصبح مكان الكنز . هناك النمط نفسه من الحكاية لدى نوفاليس . عن أهمية الآخر، اذا كان مستجوبا، حقا، عن حالته الراهنة واذا استجوبك عن وجودك . هذا له مكان في الحب الحقيقي .

كتبت عن خطر النظرة الخرقاء في مقابل التجربة المعاشة . هل الايمان بالهوية العربية أو اللبنانية دفعك لقبول المسؤوليات السياسية؟

كما قلت، أنا متحدر من عائلة مسلمة تنتمي الى الطبقة الوسطى . أنا شرقي وبالتالي مشغول، بالضرورة، بالديني كونني الغرب . لا أريد أنا أكون سجين ما أقرأه، أي الديني بالمعنى الاشتقاقي للكلمة . شرقي، غربي بثقافتي، قابلتهما حتى أكون متحررا مع أي منهما .

كنت دبلوماسيا حسبما الظروف . في البداية، في الدبلوماسية الثقافية في اليونسكو، وفي هذا المنصب، رأيت أن الثقافة سياسة وأن السياسة شكل من أشكال الثقافة . ومع ذلك، مشكل الشرق الأوسط الرهيب لا يمكن تجنبه . بالنسبة لي، المسألة اللبنانية أصبحت جوهرية . عملت كسكرتير عام في وزارة الشؤون الخارجية وعبر سفرائي في الخارج على انهاء الحرب المسماة أهلية، أي الحرب الأكثر وحشية في العالم . أنتمي الى جيل اعتقد أن لبنان كما رأها فرانسوا مورياك أو رونيه ما هو حظ العالم ونموذج عالم المستقبل حيث يأتي الروحانيون اليها للنقاش في ما بينهم لكي يجتازوا ويتقابلوا في نقطة التقاء . ولتحقيق الصلح تلقينا ضربات من كل جانب . لاحظت أن الحوار بين الأديان والطوائف وهم : على أي حال، حلم ضائع . مشهد تدمير لبنان الذاتي بمساعدة آخرين رهيب . كان صدمة قوية . في هذا الاقليم المتراص من العالم مع ميليشيا عسكرية أو دينية كان للجميع مصلحة في أن يختفي لبنان الصغير ونموذجه . هذا الميل للحوار شكل تحديا أمام العرب والإسرائيليين . كان وقوع لبنان في الشرك أقوى من امكانياتي . بعد انتهاء الحرب، غادرت لبنان بألم . أقمت في فرنسا، وأعود اليه من وقت الى آخر . الطفولة وطن، وهذا الوطن حقق ما أنا فيه . أذهب الى لبنان لكي أتردد الى حد ما على عائلتي، وكثيرا على الأشباح .

كيف ترى وضعية لبنان الحالية؟

لبنان حائر . أنه متأثر بوضعية الشرق الأوسط . هناك تياران يجتازان الاقليم، منذ القدم، لبنان ساحة معارك للامبراطوريات المتنازعة: الفرس، الاغريق، ومتأخرا بين المسلمين وبيزنطة . اذا، يوم يشفى الاقليم، من الممكن أن يأمل لبنان في الشفاء .

ليسوا كثيرين كل الرجال العنيفين والباردين، هل تفكر فيها حتى اليوم؟

نعم، ولكنهم ليسوا كثيرين . خلقت الديموقراطية حدودا لا يمكن للتوتاليتارية أن تتحداها، ومع ذلك، السياسات حتى اليوم أقل قوة من القوى الاقتصادية . تدريجيا، نرى الى عالم تيولوجي غير روحاني ومن ناحية أخرى الى عالم مادي واقتصادي . البعض يتناول التيولوجيا لجانبها الروحي والآخرون يتناولون الاقتصاد لأجل التحرر، الليبرالية كما يقولون . إنها معركة بين ماديتين مستترتين .

المثقف العربي، في البعد الذي يتقلده، يكسوه هجين اللبس . أبدا، لن يتفق مع نفسه، أبدا لن يتجرد من أفكاره المبطنة . حالة مؤلمة عن الأمكنة؟

نعم، لأن العرب اليوم، وعلى وجه التحديد المثقفون العرب، لا يستطيعون أن يتفقوا مع أنفسهم . من ناحية، يمثلون الثقافة العربية القديمة المنتجة للعجائب على مدار التاريخ: اليوم، أصبحت ثقافة منتقصة قيمتها ومصادرة من قبل الايديولوجيات . مع الارادة الطيبة للعالم، المثقف العربي انسان ممزق . أنا عربي، ولكن هذه العرباوية Arabite لا تنتمي إليّ . يتطلع الى الغرب وهذا الغرب الذي يسأله الدروس يتبدى في نظام مخادع ومضلل . لا يمكن أن يكون نفسه ولا يريد أن يكون أحدا آخر . الفكر مصادر ومحطم من خلال الأنظمة القائمة . في الوطن العربي، اليوم، لا يمكن أن نتناول الدين على سبيل المثال . هناك حدود وضعتها السلطات المصطنعة والمستهلكة . المثقف العربي مريض . ماذا يفعل؟ يصمت أو يشوّه أفكاره، أو يتكلم بالألغاز أو ينفي نفسه . يأتي الى الغرب غير أنه ليس أوروبيا، قيم الغرب ليست قيمه . لدي شيء من الحظ، مثل صديقي سيوران، في أن أفكر: لا نسكن بلدا وانما نسكن لغة . أنا في بلدي في فرنسا، في اللغة الفرنسية . عرفت ناظم حكمت، كان مشهورا ويعيش في موسكو . وكان ممنوعا في تركيا . في يوم من الأيام، قال لي أنا تعس للغاية، لم أر ولم أمسك بين يدي كتابا من كتبي مطبوعا بالتركية .

كتبت كثيرا أيضا عن التصوير؟

اللغة بلد، وكذا التصوير . الانسان في حاجة للترحال، للذهاب من بلد الى آخر . أنا سعيد بالرحلات، أماكن التجلي . الرحلة ليست فقط أفقية، وانما أيضا رأسية، استبطان، اكتشاف هوية . أتحدث عن عالم مثل بصلة كونية نأخذ في تقشيرها . هوية كل فرد، هوية العالم هذه المبادلة للحجج التي تحدثنا من قبل عنها حجة عميقة عن الرحلة التي أفهمها . بالنسبة لي، كان التصوير موجودا في داخلي منذ الطفولة . في هذا الصدد، في كتابي القادم، ذكرياتي، المشهد الأول . كنت أبلغ الثالثة أو الرابعة من العمر، حينما فتح أبي كتابا وراح يفك لي شفرات حكاية من ثلاث صور . في الصورة الأولى، صبي ينظر الى علبة مربى على رف، تحتها مقعد . وقتذاك، نادتني أمي من المطبخ . وددت أن أعرف تتمة الصورة . ركضت نحو والدتي كي أرجع سريعا . من بعيد قال والدي لقد سقط على الأرض! في الحقيقة، تبين الصورة الثالثة المقعد مقلوباً وسقطة الصبي . كانت قصة أخلاقية قصيرة . طوال حياتي، حملت بداخلي جرحا سريا لأنني لم أكن موجودا لحظة تأرجح المقعد . وددت أن أكون هناك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top