رنين هاتف صامت

جمال أماش ( مراكش – المغرب )

رنينٌ هاتفٍ صامتٍ :

هَكذا مَضينا، بلا زَمنٍ. نقطعُ الجهاتِ، طولاً وعرضاً،
في كلِّ الفصولِ، ونرُدُّ كل عودةٍ إلى مخاضِ الجذورِ.
هكذا مَضينا، عاشقٌ أبْكَمُ وامرأةٌ منْ ريحٍ..
فتىً في العشرينَ يلاحقُ مزاجَ السّرابِ في تَحليقهِ.
ويسابقُ الأفقَ حدَّه الأَعْلى، في سماءٍ تبتعِدُ في طبقاتِ اللقاءِ،
تقودُها سيقانُ منْ ريحٍ إلى تُخومِ لذّاتٍ لا يَصِلُها الصَّباحُ.
ريحٌ تُحصِّلُ في ليلِها الطويلِ ،ضوءً قاسياً بِلا أشعّةٍ،
يرسِلُ لَكزاتٍ إلى جِلْدها الباهتِ على ظهرِ الصهيلِ؛
تضحكُ، وتتركُ وراءَها عقوداً لا دمَ فيها . هكذا أمْشي اليومَ بِمزاجٍ أخْرسَ،
في صمتِ الفراغِ، وأسعى كضريرٍ إلى ضِفةٍ أخْرى،
بِعَصا بيضاءَ، وخسارةٍ في جَرسِ الهاوِية. أقطعُ بحرَ الغيابِ،
بقاربٍ باطنيٍّ من مِهرجانِ الهذيانْ. أمْضي غريباً في أمكنةٍ غريبةٍ،
وأمشي على رؤوسِ أصابِعي في جلبةِ الغناءْ .
كُلُّ شيءٍ يَسمعُ، ولا يَتكلمُ، أكياسُ العدسِ الصغيرةِ،
تُحصي المَوتى. عُلَبُ الجُّلبانِ تنتظرُ نصيبَها من المضغِ المَجّاني،
وآلة الطَّحن الكهربائي معطَّلةٌ، أفرغتْ مكانَها لصمتِ الفراغِ،
ولشغبِ أطفالٍ يعلنونَ بدايةَ النهارِ..
نَروي سِيرتَنا، ونتركُ القُبَلَ التي خَلَّفناها على عُشْبِ مُحترَقٍ،
تسردُ بعضَ مُغامراتِنا في غُربة الألسنةِ، وشوقَها إلى قرونِ الجبالِ؛
تَحنو إلى المَصبّاتِ التي ضاعتْ في سيولِ خرقِ العاصفةِ لصمتٍ مُتعلِّقٍ بالحياةِ،
كصحراءَ متعلقةً بِحليبِ النّوقِ في سنامِ القافلةِ؛
في رَنينِ هاتفٍ صامتٍ، يُزعجُ بذبذباتهِ وصولَ النملِ إلى حتفهِ،
والعسلَ إلى لِسانهِ .. وفي ممرٍّ ضَيِّقٍ، تُضايقني مرآةٌ بعيونٍ بلهاءَ تترصدُ عَثراتي،
وتُذكِّرُني بعناقٍ لا حدودَ لهُ، كأنَّنا في هاويةٍ، كأنَّنا في بئرٍ توقظُ المَوتى،
وتتركُ لِضوْءٍ مُرٍّ، أنْ يتحدثَ بدلاً عنّا،
ويُرسلَ في صمتٍ، إشاراتٍ إلى أشجارٍ قلقةٍ،
تَعبُرُ بسرعةٍ ولا تتكلمُ.. هكذا أسردُ صَمتي بينَ زَمنين..
أتركُ العَجلةَ ترجعُ وراءً، لِأَعُدَّ في سبحةِ الحُزن، أذكارَ الزَّمنِ الضَّائع،
وأطرُدُ تمائمَ الجَهلِ، منْ مدائحِ الحُبِّ الجَاهليِّ.
أضعُ نقطتينِ على بياضٍ لوَّثَتهُ زوابعُ الدمِ التّائِهِ،
بين شريانٍ لمْ ينقطعْ عن رَفْدِ الحُلم، بليلٍ يلهثُ كثمْرِ الصَّحراءِ،
وبينَ أنثى تَنصبُ الفِخاخَ للجذورِ..
هكذا مَضينا، سَهمٌ وقوسٌ ينفثانِ للغيمِ ريشاً،
ليحلِّقَ باتجاهِ شجرةٍ عاريةٍ من الاسمِ،
ومنَ الأوراقِ ، إلاّ منْ فاكهةٍ ترسمُ اسمَهُ وتَختفِي.
هكذا يَختفي ظِلِّي في ظِلِّ الصيفِ. يتركُ للزواحِفِ،
واللاّفقارِياتِ الغريبةِ حظَّها من رشفِ رحيقِ الوجودِ،
في وليمةٍ لم تُكتبْ لها الحياةُ . في رُكنٍ قصيٍّ يَنزوي،
ويُعاقرُ في حانةِ الهواءِ الطّلقٍ نبيذَ النسيانِ.
لا يُهِمُّهُ ندماءُ عُطلةِ الجسدِ ،
الذين أفْنَوا رئاتِهم في رَكضٍ مُتعثِّرٍ،
أوْ بَحّارةٌ جُددٌ اكتشَفوا لِلتوِّ حَواسيبَ شُهرةٍ بالنقْرِ الاعتباطيِّ على شاشاتٍ صمّاءَ.
تبتعدُ الضِّفةُ عنْ أختِها، لاختلافِ في الأمزجةِ والولادةِ،
ولربَّما لزوبعةٍ في صبيبِ الدَّمِ..
و يلتقيانِ في تقاطُعاتِ عُيونٍ بِها ظمأٌ قديمٌ ،
في ليلةِ طالمَا غابَ عنها بدرُهَا .
هَكذا يتعَرَّفُ الماءُ على سريرهِ،
في لقاءٍ لمْ يعرفِ الغيمُ إبانَ سقوطِه،
ولا الجاذبيةُ جرَّها مغناطيسٌ يخْرُقُ جبلَ الصَّمتِ،
وسديمَ الزَّمنِ.
هكذا التقينا،
أطلقْنا ماءً بين ضِفتَينا.
رَمَينا فيها أسماكاً منْ صمتٍ بَهيٍّ ما زالَ صيدُها بعيداً..

جمال أمّاش مراكش-2020/4/2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top