/>محمد علوط / الدارالبيضاء – 2025
**
نشر ديوان ” سأعبر جسر القصيدة ” سنة 2023 و تلاه ديوان ” حصتي من الإرث شجرة ” سنة 2024 ( 1 ) و هما معا للشاعرة سعاد بازي المرابط ،
و يعكسان تراكما لتجربة إبداعية محمولة على مساند [ الشعريات الوجدانية ]
التي تنسج مشابك المعنى من ذلك التساند البلاغي بين صوت الأنا الشعري و الخيال الرمزي لنص الطبيعة ، و نص الواقع ، و مدونة تفاصيل الحياة اليومية ، و التاريخ الشخصي لإمرأة مشغولة طيلة الوقت بترتيب مواعيدها مع القصيدة .
كل هذا من خلال لوحات شعرية تشكيلية يتوحد فيها منطوق اللغة بالاستدعاء الرومنطيقي لشعرية تخييلية
تعتمد فيها الشاعرة على تشغيل لغة الحواس في بناء و تشييد متخيل الصورة الشعرية ،
و يعمل فيها الفكر على استدعاء قيم الحب و الجمال و الإيمان بدور الإبداع في منح الوجود و الحياة و الواقع بعد إنسانيا و جماليا عميقا .
نظرا لتجانس الأفق الشعري في كل ديوان على حدة ، فإنه يجوز إلى حد التوافق و التناغم الكامل أن نقرأ القصائد الستة و العشرين من الأضمومة الشعرية ” سأعبر جسر القصيدة ” باعتبارها نصا شعريا متكاملا ، و ذلك لأن النسق الدلالي يلتئم في ضفيرة واحدة تتمجدل حول [ سؤال الهوية الشعرية ] .
كل النصوص الشعرية في هذا الديوان مشدودة الأرسان إلى الحضور المضاعف لهيمنة ( نص الذات ) و هو ينعكس في ( مرايا اللغة الميتاشعرية ) ،
حيث الأنا الشعري لا يكف يقتفي في منكتب القصيدة خرائط الهوية الشعرية ، أو [ سؤال : المن أكون شعريا ؟ ]
قطعا لست أنا
التي عاشت كل هاته السنوات
…
كنت منشغلة بإحاطة القصائد بالماء و المرعى
الآن صرت أتوسد ذراع فكرة
…
كنت أكتب بأول قلم
أستعمله خلسة
كان يضج شعرا
…
أترك لجمال الخط حرية الانسياب
على بياض
أتجنب احتكاك الحروف بالسطور
أتجنب كل ماهو عمودي أو أفقي
…
لولا طموح الحروف
كي تصير قصيدة
ما كتبت
هكذا أنا
عندما يضل النهر النهر عن مجراه
أصبح على أهبة لأصير ساقية
حرصا على ألا يبوح بالسر
و يخون تعاليم الماء .
” ص – 8 / 12 ”
تتعدد صور هذا البوح الشعري في ديوان ” سأعبر جسر القصيدة ” و تتسربل اللغة بغنائية مونولوجية . تصير مرآة انكشاف الهوية الشعرية تارة شفافة و بالغة الوضوح و تارة تتلفع بكثافة من الالتباس و الغموض كلما أوغل البوح في مجاهيل الذات . تتعدد في الديوان الأمكنة الرمزية للهوية الشعرية ،
لكن غالبا ما تتحدد مواقعها مواقعها من خلال انعكاسات مرايا الغيرية المشكلة لتعددية الأصوات في المشهد الشعري .
تتقاطع الطرق و تتفارق ، و يشتد سعي الأنا الشعري في أن يجد له إقامة في المساحة الحرة بعيدا عن أوهام التشابه و تداعي الظلال على بعضها و ترجعات الصدى :
لا شبه بيني و بين الشعراء
بيني و بينهم
حلبة و سباق
أحصنة و رهان
بيني و بينهم
بقعة حبر
و صيد وفير
بيدي ناي من قصب
و شبابتهم من فخار
…
اعتقدت أنني لا شيء بالأشباه الأربعين
لأنني زارعة أقمار
أسخر من العتمة
سليلة شمس بداخلي
لا ينال مني الصقيع
لذلك يبقى نعناع حديقتي أخضر .
” ص – 37 / 40 ”
يلوح [ رمز نرجس ] في مرايا اللغة الميتاشعرية ، هذا الصوت المجازي / القناع الذي شكل موضوع الأطروحة النقدية لحاتم الصكر في كتابه ” مرايا نرسيس ” ( 2 ) تلجأ الشاعرة سعاد بازي المرابط إلى أبعاده المجازية و تخييلاته الرمزية لأانه من أكبر الجسور الفنية
التي اعتمدها كبار الشعراء للتعبير عن الهوية الشعرية كما أوضحنا ذلك بتفصيل في كتابنا ” شعرية القصيدة المغربية الحديثة ” ( 3 ) .
الديوان الثاني ” حصتي من الإرث شجرة ” يضم 62 نصا شعريا اعتمدت فيه الشاعرة على مبدأ الكتابة الشذرية ، و ذلك ما يفسر الوفرة العددية للنصوص . هذا الديوان هو بأحد الوجوه امتداد للديوان السابق ، لكن مع ظهور متغيرات نصانية نسوقها وفق الصوغ التالي :
أ – انتقلت الشاعرة من محورية سؤال الهوية الشعرية إلى منحى كتابة تتشاكل مع [ مفهوم السيرة الشعرية ] مع التركيز على توجيه الوعي الشعري نحو سؤال وجودي – تراجيدي ، فحواه : ما الذي يمكن أن تقدمه لغة الشعر في مواجهة وجود و واقع موسومين بالتفكك و الإحباطات و فقدان المعنى ؟
ب – محافظة المونولوج على مكان راسخ ، و هو مونولوج لغة الاستبطان فيه تغدو فضاء مسكونا بقلق السؤال المعرفي الوجودي حول مفارقات الحياة ، و تبدلات القيم ، و حدة الوعي بالزمن و الموت ، و تساكن المنزع الرومنطيقي مع لمسة ذات طابع ميتافيزيقي .
ج – بسبب انتحاء الشاعرة أسلوب الكتابة الشذرية تقلصت مساحة الغنائية في هذا الديوان لتحل محلها نزعة وجدانية تأملية يستبق فيها الفكر منطوق الوجدان . و هو أمر نراه طبيعيا لأن منزع الكتابة الشذرية في الشعر يمنح دائما الامتياز للفكر على حسب الغنائية ،
و يمنح الأولية لقلق السؤال على الأجوبة الجاهزة ، و يسمد لغة الشعر بانفتاح المعنى و الدلالة على الاستبطان المعرفي في مرجعياته المتعددة ( الواقع ، المجتمع ، التاريخ ، القلسفة ، الدين ، و نصوص الفن و الجمال )
نقرأ من الديوان :
كل ما أعرف عن الموت ” كفن ”
و كل ما أعرفه عن الحياة أني ” سائحة ”
أقبض على جمرة
إلى حين اكتمال التشظي
أتوجس من أوقات تنتهز
تورم خيبتي
ما الوقت سوى خائن دساس
يفتل حبالا على شكل عقد يغري الجيد
يحدث الخواء العظيم
و أنا أملأ الفراغات
دون أن أتساءل عمن أحدث الفجوة
” ص – 15 ”
يتواتر في هذا الاستدلال الشعري مسرى نشيد يطبعه الحزن و الشعور بهوة الفقد و الفراغ و سلبية الواقع [ الموت ، الكفن ، الجمرة ، التشظي ، التوجس ، الخيانة ، الدسيسة ، الخواء ، الفراغ ، الفجوة ] .. يعتري منطقة الحلم ظل العتمة و غبش الرؤية و سراب الفكرة .
نقف على نفس المناخ الشعري في جهات متعددة من الديوان ” حصتي من الإرث شجرة ” رغم الرمزية الإيجابية و الجميلة للشجرة كترميز للمقاومة و عناد الشعر لكل قوى الاندثار السلبية :
إلى معشر الحطابين :
خذوا الغابة
و اتركوا لي شجرة الشعر
و نخلة
لو مسني وجع المخاض
أهزها
” ص – 22 ”
من المؤكد أن السياق الشعري لكتابة كل ديوان من الديوانين يختلفان من حيث المقصدية الدلالية ، فالديوان الأول مخصوص بتشريح أوجاع الذات الفردية ، لكن الديوان الثاني لغة القصائد فيه مشرعة على صوت المشترك بين الأنا الفردي و الجماعي و لغته محبوكة من دم الصراع بين الأنا الشعري و واقع و جود موصوف بالسلبية و النفي ،
رغم أن الطبيعة النفسية و الإبداعية للشاعرة سعاد بازي تسعى دوما للمصالحة بين الحلم و سراب الواقع في زمن لا يكف عن مراكمة أوجاع المأساة و المفارقات التراجيدية لصراع الوجود و العدم .
هوامش :
1 – سعاد بازي المرابط ” سأعبر جسر القصيدة ” . طبعة أولى 2023 . مطبعة وراقة بلال فاس المغرب .
سعاد بازي المرابط ” حصتي من الإرث شجرة ” . طبعة أولى 2024 . مطبعة وراقة بلال فاس المغرب .
2 – حاتم الصكر ” مرايا نرسيس ” طبعة 1999 . المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع . بيروت لبنان .
محمد علوط ” شعرية القص”يدة المغربية الحديثة ” . طبعة أولى 2016 . مؤسسة منتدى الكتاب . فاس المغرب .