لم يكن الأمين هذه المرة مطمئناً لذهابه في العملية .
خاصة أن شقيقته أخبرته آخر مرة أن اليهود هددوا والدته بتلغيم المنزل إن لم تسلمهم ابنها الأمين .
كان ” غزال ” يشدُّ حزام الرصاص حول وسطه , ويجهز قواذف ال ( ب ـ 7 ) ثم مضى مودعاً أصدقاءه ،وألقى نظرة سريعة على كرَّار الذي بدا أصفراً شاحباً ونحيلاً وقال له : يالي من ممرض فاشل !!
ثم انحنى يريد أن يقبِّله مودعاً ..فدفعه كرّار بقوة بعيداً عنه ..
قائلاً : أنت لاتبالي بشيء . ألا تخشى من العدوى ؟ هيا امضِ إلى مهمتك . لاينقصكم أن تحملوا عبء مريض آخر. غادر ” غزال ” الكهف , ثم عاد ووضع في فمه قضمة تفاحة كان الأمين قد قشَّرَها لكرَّار . لكنَّ الغزال مشى خطوتين باتجاه الخارج ثم عاد وحمل التفاحة بِرُمَّتِها ..نظر إليه كرّار محتجاً وهو يبتسم .
فقال الغزال : لم أتناول شيئاً منذ الصباح .ويجب ان أتغذى . ربما تكون هذه التفاحة آخر تفاحة نأكلها . وربما نصعد بها نحو السماء . ثم قضم قضمة أخرى
واسترسل بالحديث : ربما نُعيد الاعتبار لأبي البشر . ثم خرج من جديد وهو يتكلم وفي فمه بقايا التفاحة, وبدأ يُتَفْتِف ويقول : إذا صدر انفجاران متتاليان في الواحدة ليلاً . قاطعه كرّار :
ـ إبلع مافي فمك حتى نفهم ماتقول ..تابع الغزال ربما نكون قد انجزنا المهمة , وإن لم نعد حتى صباح الغد عليكم تغيير المخبأ . فلو قبضوا عليَّ سأعترف من أول صفعة ,
خاصة إذا ضربوني مكان الإصابة القديمة في ساقي . ثم ضحك ضحكة مصطنعة وكأنه كان يشعر في قرارة نفسه أنها عملية استشهادية . .
قال الأمين : لاتخف لايضربونك على الساقين . فهم يحكمون الضرب على الإليتين والخصيتين . قال كرار بتثاقل : فعلاً هذا مافعلوه معي عندما اعتقلوني أول مرة . رغم أنهم لم يثبتواعليَّ التهمة
قال الغزال وهو يضحك بصوت منخفض : إذا كان الضرب على الخصية فلن اهتم كثيراً .لأنها يمكن ان تهّرُّ لوحدها .فأول أثر تخريبي للإحتلال كان بدخول شظية بإحديهما .
كان الغزال يحاول بكلماته أن يلطِّف الجو ويخفف من حدة توتر الجميع .
ثم دسَّ ماتبقى من التفاحة بقوة بفم الأمين الذي انفتح بالكاد من شدة صغره .
قال: خذ ..عش بهذا النعيم فهذه هي المرة الأولى التي نتذوق فيها التفاح اللبناني بعد الإحتلال الذي جعل السوق تعج بالتفاح الإسرائيلي.
امتعض الأمين الذي لم يكن مهيئاً هذه المرة للمزاح وقال : لاأدري كيف تجرؤ على الضحك وأنت تمضي إلى الموت ؟!
ـ إن لم أضحك في هذه الدنيا ،فمتى أضحك ؟
ـ عندما تصبح في جهنم الحمراء
ـ ( فشرت ) ..أنا قطعت بطاقة إلى جنة الخلد .
ـ من أين اشريتها ؟
ـ من جبهة المقاومة الوطنية .
ـ هل دفعت ثمنها بالعملة اللبنانية أم بالدولار؟
ـ ثمنها سيكون دمي الذي سأصعد به للسماء.
ـ أنت تريد ان تستشهد لتتخلص من جحيم الحياة ، لاحباً بالشهادة .
ـ ضحك وقال :وهل تعتقد أنني لن أكون في الجحيم وأنا أقابل الحوريات الحسان والشظايا في خصيتي ؟
كان الزغلول يراقبهما بحنق ، إذ أنه كان أهدأ عناصر المجموعة وأكثرهم حذراً وفعالية .
. قال الزغلول : كفَّا عن مناكدة بعضكما ،
فالوقت يمرُّ بسرعة ..التفت الغزال بجدية ونظر نظرة حانية باتجاه كرّار وقال :عافاك الله ..تَطَلَّعَ كرّار نحوه قائلاً بصوت متحشرج :لاتتجاوز أمر جهاد ،ولاتكثر من الفضول ,واتبع المخطط المرسوم .
قال الزغلول للغزال كرار عنده حق فأنت لو وُضعتَ في جهنم لسألتهم لماذا الحطب أخضر ؟ هيا اسرع قبل أن يفوت الوقت .خرج الغزال وتبعه الأمين بكامل عتاده .ولاحقهما الزغلول حتى حافة النهر. ثم عاد وهو يتنهد ,وقطع عليه تنهداته صوت كرّار أريد ماء . أشعر بجفاف في حلقي .
أسرع الزغلول إلى الداخل وحمل وعاء الماء فوجده فارغاً ، بحث عن الإبريق ,
فوجده أيضاً فارغاً إلا من بضع قطرات , ناول الإبريق لكرّار, ثم حمل (الوعاء) وخفَّ به مسرعاً باتجاه النهر .ملأه وعاد بسرعة خشية ان يدخل ذلك الثعلب الذي يقف كل يوم بباب الكهف ليتغذى على بقايا السمك ، ثم يهرب حين يلاحقه أحد العناصر . ركزَّ الزغلول ضوء مصباحه على وجه كرّار ،
فوجده قد ازداد اصفراراً , وقد خطف اليرقان كل حيويته التي كانت تكلل سمرته ,وبدا هزيلاً , رغم أنه استهلك بقامته الطويلة مساحة كبيرة من الكهف .
بحيث لايتمكن كل من الزغلول وغانم والأمين أن يتمددوا إلا وسيقانهم محنية رغم قصر قاماتهم .
تمكن ” الزغلول ” بعد مُضِيِّ صديقاه للعملية العسكرية من فرد ساقيه والتمدد بالطرف المقابل لكرّار وقال : (وقد بدا القلق واضحاً على محيَّاه ) لقد تأخرَتْ ” زوبا ” ،
لم تأت بالمصل بعد . وحمل كأساً من الدبس السائل وقدَّمه لكرَّار.
ـ يجب ان تأخذ المزيد من الدبس ريثما تأتي ” زوبا ” وتحضر الدواء .
يتبع ….