شعرية القصيدة المغربية الحديثة ( من شعرية المماثلة الى شعرية النفي )

يقودنا استكناه التجربة الشعرية للمنجز الشعري المغربي الحداثي ،
من خلال ما تحصل لدينا بعد اعمال النظر النقدي في تأسيسيات القصيدة
الحداثية بالمغرب و بدائلها الرمزية أن :
1-الناظم الأساسي لنصوص شعرية المماثلة هو عضوية العلاقة
بين القصيدة و مرجعها الواقعي ، و هي علاقة شفافة بين النص و الخارج – نصي ،
ترسم الحدود بين الكلمة الشعرية و انعكاس المعنى و الدلالة في ارتباطهما
بالسياق الاجتماعي و التاريخي،
و صورة الذات الشعرية ترتسم في تشخيص تخييلي استعاري عبر الوساطة الرمزية
للمكونات التالية :
_ الرمز _ القناع _ الأسطورة _ التناص في شعرية المماثلة يتم احترام المسافة
الموضوعية بين ” التخييلي ” و ” الواقعي ” وثمة ميثاق تلق ناظم للغة الشعرية
و هي تتوسل بالرمز و القناع و الأسطورة و التناص يجعل متخيل القصيدة عضويا ،
حيث الذات كما الواقع تنمطهما رؤية أحادية المعنى ،
تتسم بالاكتمال و الانسجام الداخلي . و يمكن التمثيل لنسق شعرية المماثلة
بمجمل التجربة الشعرية لكل من الشاعرين محمد الخمار الكنوني و أحمد المجاطي،
وبالنسبة لمحمد بنطلحة فان ديوانه ” نشيد البجع ” متصل اتصالا وثيقا بالأفق الاستطيقي لشعرية المماثلة . حين تحدثنا سابقا عن شعرية المماثلة من خلال “القصيدة الملحمية الرؤيوية” فذلك لأن هذه القصيدة بمصطلح جاكبسون تشدد النبر على ” الرسالة الشعرية،
لأن مفهوم الالتزام في الشعر اقتضى ميثاق قراءة ” تواصلي ايديولوجي الدلالة ”
يرسم الحدود جلية بين النص و الواقع جاعلا الوظيفة الايديولوجية –
رغم النسق الترميزي الجمالي لاشتغال الرمز و القناع و الأسطورة و التناص –
تتسيد على الوظيفة الجمالية ، فكل تلك المرايا الرمزية المعتمدة في التخييل الشعري ظلت باصطلاح اللغة الحجاجية ذرائعية Argumentative ترسخ التلازم بين المقصدية الشعرية والمقصدية الايديولوجية ، بين القصيدة ك ” خطاب ” و المعنى الشعري كمحمول دلالي و تداولي لا يكتمل الا بمماثلة النص لمرجعه الواقعي . بيد أنه يجب الاشارة الى أن شعرية المماثلة من الممكن تبين معالمها في تجارب شعرية من خارج نسق القصيدة الملحمية ،
مثلا في التجارب ذات “العمق الرومنطيقي” التي جعلت من ” الذات ” بؤرة اشتغال التخييل الشعري و أسانيده الرمزية، و أتمثل هنا بنصوص عبد الكريم الكريم الطبال في ديوانه ” البستان ” .
ففي هذه التجربة الشعرية –
التي كنت أتمنى أن أن يدرجها الشاعر والناقد محمد بودويك في كتابه
” ناده بما يشتهي ناده كما تشتهي / في ضيافة الشعر المغربي ” ( )،
لكنه اختار تجربة مساوقة لها من حيث النسق الشعري و هي المتمثلة في نصوص الشاعر محمد بلحاج ايت وارهام – تؤسس القصيدة لوعي المماثلة في التناظر الرمزي بين الذات / الوجدان الفردي و الجماعي و مرجعية تخييلية تتشاكل فيها رمزية المكان برمزية الطبيعة. المسافة بين القصيدة و مرجعها الواقعي تظل عضوية و شفافة ،
و انتاج المعنى الشعري يتم من خلال أمثلة و أسطرة الطبيعة و المكان ، و الذات الشعرية تتوسط في تشخيص صورتها و صوتها من خلال متخيل تنظمه إوالية التسامي في انبناء مفهومية ” اسمها الرمزي ” / نفس الإوالية الناظمة للمتخيل الشعري لدي أحمد بلحاج ايت وارهام من خلال التشاكل الرمزي لصوت الذات و صورة الواقع بالمرجعية التخييلية الصوفية / ثمة ذات و واقع موسومان بالفقدان ” و هو عنصر مشترك مع القصيدة الملحمية الرؤيوية ” و تصعيد غنائي درامي من خلاله تستدعي الكينونة الشعرية ” مثالا ” و ” عالما رمزيا مطلقا “،
على نمط تجربة ” الفردوس المفقود ” لميلتون حيث رموز المكان و الطبيعة تضيء المعنى الشعري بضوء من الماوراء .
2- في شعرية النفي :
النظير الشعري الاختلافي لشعرية المماثلة يصير سؤال الكتابة الشعرية محوريا ، اذ نحن ازاء نسق شعري انشقاقي يجعل من الشرط الجمالي والشرط الوجودي المتلازمة العضوية لسؤال ما هو شعري . فمن تشديد النبر على الرسالة على الرسالة الشعرية في شعرية المماثلة ننتقل إلى تشديد النبر على الوظيفة الرمزية في شعرية النفي ، الذات هي الكائن في مطلق وجوده الانساني و الواقع يتحول إلى وجود منفتح على الكوني ، وما كان واقعا عضويا مغلقا و متكاملا في شعرية المماثلة يتحول إلى مرآة من بين مرايا أفق شعري احتمالي يجعل القصيدة تفكك تلك الوحدة العضوية للواقع و تخترقه بالغيريات و القيم الاختلافية . القصيدة تحولت إلى فضاء شعري لكتابة حدودية ينكتب فيها الواقع الشعري في سيرورة الكتابة ، لم يعد الواقع بنية تناظرية مع القصيدة تقع خارج النص ، فالواقع لا يوجد خارج الذات، بل هو من انتاج الوعي عبر وساطة اللغة و التخييل والمتخيل . صورة لتمثل معرفي ، و أحد حدود المعرفة لا مطلقها ، و هو بالتالي أحد محتملات الوجود الانساني ، خاضع لإدراك تنسيبي ، إذ تخترقه غيرياته اللاواقعية واللاعقلانية و الاستيهامية و الغرائبية و الحلمية و الأسطورية . القصيدة في شعرية النفي تقدم لنا وعيا شعريا ليس المرجع الواقعي الا أحد مستوياته التخييلية و النصية ، كتابة موسومة بتعدد المعنى مع انمحاء خاصية “الايهام بالواقع” ( )، بل في صلب اللغة التخييلية لشعرية النفي ليس الواقع المادي إلا أحد مجازات الكينونة ، لأنه ما من واقع إلا و هو صورة لتمثل في اللغة و الوعي .. إننا في النهاية “كائنات من ورق” ،
كما يقول محمد بنطلحة في “أخسر السماء وأربح الأرض”. أما التأسيسات الجمالية الكبرى ل ” شعرية النفي ” كما حاولنا تبيانها من هذا الاشتغال البويطيقي على تجربة الكتابة الشعرية لدى محمد بنطلحة فنوجزها كالتالي
” أ – اعتماد القصيدة على البنى الاستعارية المنزاحة من خلال حد المفارقة التي تؤسس لجماليات بلاغة انقلابية على نمط الاستعارة التشخيصية وذلك عبر تحرير الأنساق الاستعارية من تمثلات الشبيه .
ب – تكسير المسافة التماثلية بين النص و المرجع الواقعي بالانزياح عن التشخيص الانعكاسي الى التشخيص المفارق ، و تعدد مستويات التخييل الشعري .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top