ضربة النرد في الشعر

الشعر والمستقبل أو ضربة النرد في الشعر..
” الشعر ليس التعبير عن الأفكار أو تصور الحياة،
إنه اكتشافهما، أو خلقهما” أي.سي.برادلي بداية لا بد من التنويه أن انشغالي بهذا الموضوع،
أقصد البحث في فكرة العلاقة بين المستقبل والشعر، وبالكتابة بشكل عام،
لا تعني أنني أرسم ملامح المستقبل، أو أحدد شكلا لمستقبل القصيدة،
او الكتابة الشعرية العربية في المستقبل، بقدر ما أريد أن أفكر في العلاقة
بين الشاعر وما يكتبه، وعلاقته بالآتي، واشتغاله بأفق الكتابة وجدتها.
كما أود من خلاله الاسهام في نقاش فكري إبداعي، أكثر مما هو نظري أو نقدي.
وعليه ففي نظري المتواضع ليس هناك كتابة الماضي وكتابة الحاضر او المستقبل،
بقدر ما هناك كتابة قديمة أو كتابة جديدة، هناك كتابات قديمة لو تناولناها الآن
وألغينا تاريخها لوجدناها كتابة طازجة، وكأن حبر كلماتها لم يجف بعد.
إنها كتابة الوجود وكأن الموضوع مرتبط بسر صغير خاص بالإبداع بأشكاله المختلفة
هو الانتقال بالآني والهارب إلى مستوى الديمومة وبالخاص إلى الشمولي.(مجلة ألف/1992.ص77) في حوار قديم، مع منير العكش، في كتابه أسئلة الشعر(1979 ) يقول أدونيس
“أن هناك أغوارا، أنا عاجز عن الوصول إليها بالكلام، وأحس أن هناك شيئا أمامي، المجهول….المستقبل.
هكذا تواجهني القصيدة، كلما همت بي وهممت بها.
لا شيء يغري بالاستمرار في الكتابة إذا لم تشغلني هذه الأسئلة الحارقة.
أسئلة لها علاقة بالتفكير في الكتابة كسؤال وجودي. وتبقى الأمور الأخرى المرتبطة بالشكل والمضمون واللغة،
أدوات ومواد لتحقيق مشروع ما، قد يكون قصيدة أو مجموعة، أو أعمالا كاملة، أو غيرها.
هي ليست كتابة صدفة أو حالة منعزلة، ولكنها اشتغال يومي، وفق رؤية معينة للعالم. تتحقق مع الزمن. يعيشها الشاعر بامتلاء كبير، خلال حياته اليومية، أومن خلال علاقاته مع الأشياء والكلمات. من الأسئلة التي تشغلني كثيرا، أسئلة المستقبل، وقصيدة المستقبل.
كيف يعيشها الشاعر في الحياة وفي الكتابة. هل الشاعر يعيش بعيدا عن الواقع وأسئلته العامة، أم يعيش بعيدا عن ذلك كله ،أي يتركها للأخرين، ويبقى منحصرا في الاشتغال على نصوصه، وفي مقروءاته الفكرية والفلسفية والأدبية. كيف يعيش أسئلة المستقبل في العالم وفي بلاده، بكل تحدياته الميتافزيقية والتقنية، وآثارها المباشرة وغير المباشرة على الإنسان بشكل عام؟
المستقبل بالنسبة للشاعر ليس بالدرجة الأولى مستجدات التقنية والبحث العلمي والذكاء الاصطناعي ومواجهة الاحتباس الحراري وغيرها. أي كيف يطور الإنسان علاقته مع الطبيعة، وكيف يستثمر تسارع الزمن في صالح الإنسان. لكن الشاعر أو الشعراء لهم رؤية أخرى للمستقبل، نابعة من إحساسهم الكبير بثقل أسئلة الوجود ،و أسئلة كل ما يواجه الإنسان من مخاطر مادية ومعنوية. ولذلك فالتفكير في المستقبل، ليس تفكيرا في أسئلة العلم المادية الظاهرة، ولكنه طرح الأسئلة العميقة التي تخدم جوهر الإنسان. وهو ما جعل هنري ميلر ، يعتقد أن مهمة المستقبل هي اكتشاف مكامن الشر ومخاطره.
ومن هنا فما هو اتجاه الشعر، وما دور الشاعر ورسالته في العالم، هل التفكير في الجمال مُرًّا، أم التفكير بالطاقة الذرية وفي المكتشفات العظمى؟ هو الإيمان بهذه التغيرات لصالح الإنسان. والشاعر في نظر ميلر ليس من ينظم الكلام، مقفى أو غير مقفى، ولكنه الرجل القادر على تغيير العالم تغييرا عميقا.
الشاعر هو من يجعل البشر يمسكون بفداحة الحاضر، والتفكير بصيغ المستقبل، إذ ليس سوى المستقبل يحدق في وجوهنا. إنه لأمر مرعب ما يخبئه لنا المستقبل أكثر مما كان عليه في الماضي.(ص51 ) هل تعني كتابة المستقبل، التخلي عن التراث، عن منجزات الكتابة الشعرية القديمة، نتحدث عما يسمى في المتن النقدي العربي بالشعر الجاهلي، عن الكتابة الصوفية، التي اعتبر البعض العودة إليها، بحثا في الأصول العربية للسوريالية. هل غموض المستقبل من غموض الموت كسؤال يرتبط بالعبور بين عالمين، بين الماضي والمستقبل، مستقبل الإنسان، مستقبل الكتابة. وهل لنا أن نتصور شعر رامبو، وحياته القصيرة وما حققه بعد وفاته من تغيير كبير في النظر إلى الشعر وألى رسالته وعلاقته مع الجمهور. ولنا ان نتصور أن النور الضئيل الذي أطفأ بوفاته، قد اكتسب قوة وحدة منذ انتشرت حقيقة موته. ولقد عاش بصورة أكثر روعة وحيوية من كل ما فعله في حياته بعد أن فارق هذه الأرض.(ص54 )
هل مستقبل الشعر هو النثر؟ النثر ليس نهاية مطاف، كما قال أدونيس. وإلا ستقول الوزن أو الإيقاع مرحلة والنثر مرحلة أبعد، أبدا. الشعر يستنفد كل تاريخ. والتاريخ يعجز أن يحيط بالشكل. التاريخ نص والشكل تنفس. الفرق بين الشكل والتاريخ هو الفرق بين الماء ومجرى الماء. الشكل في ذاته مضمون والشعر بهذا المعنى هو الفوضى الرائعة كفوضى الطبيعة. القصيدة فوضى طبيعية. الشكل لا نهاية له. إنه غياب القانون . إنه الفوضى الكونية. إنه زمن ما قبل العالم(ص127 ).
ان خصائص ما قبل العالم توحي ضرورة بخصائص ما بعد العالم. الشعر هو هذا العالم المقبل الذي يشبه كل شيء في العالم الماضي وفي اللحظة نفسها يختلف عنه اختلافا كليا. الشعر هو اتجاه نحو المستقبل، لذلك فالقصيدة الحقيقية هي القصيدة التي لم تكتب بعد. للشاعر لغته، وللقصيدة سياقها. لغة الشاعر مخيلته ، مخياله، واسلوبه الذي يتسمى به، ويعلن عن موقفه وآرائه، عبر مصفاة الكتابة وعبر ذائقته الشعرية. ولذلك فهو معني دائما بالانتباه إليها ، وبتطوير ها شكلا ومبنى. أي الخروج من قوالب قديمة إلى أخرى تتغيا آفاق جديدة، قد لا يعرفها. ولذلك فلها سياقها الذي يبدعها. في الماضي كان الشاعر يعبر عنها بشكل مباشر. اليوم سياق القصيدة سياق شخصي، يعني قطعة من اللحظة الشخصية التاريخية التي يعيشها، قطعة جدلية بين الانسان وغيره، بين الفرد والتاريخ.
القصيدة القديمة مرتبطة بمصادرها وينابيعها. القصيدة الجديدة. وربما قصيدة المستقبل، هي أكثر من مصادرها المباشرة وغير المباشرة.(ص137 أدونيس). الشاعر والمستقبل،
أو الشعراء والمستقبل. يبدو أنهم ولدوا في هذا العالم مناضلين، من أجل التعبير عن الأعمق سرية في طبيعتهم، وليس موضع شك ان هناك سرا يؤرقهم ولا يحتاج المرء الى أن يكون رائيا ليدرك الفرق بين مشكلاتهم ومشكلات سواهم من الناس، وكذلك سبل تناولهم لهذه المشكلات. هم منحازون إلى بعمق إلى روح عصرهم إلى تلك المشكلات التي تسم زمنهم. إنهم ثنائيون دوما لسبب واضح ما داموا يجسدون القديم والجديد معا. ينبغي أن يتوفر زمن أكثر وتجرد أكثر ، حتى نعرف قدرهم ونقيمهم أكثر من معاصريهم. إن جذور هؤلاء الرجال ممتدة في ذلك المستقبل بالذات، المستقبل الذي يؤرقنا. إنهم ممتزجون بالتحول، بالتدفق ، هم حكماء بطريقة جديدة ولغتهم تبدو لنا سرية ،إن لم تكن حمقاء أو متناقضة(ص56 )إن المستقبل بالنسبة له يعني التحقق الحتمي لرغبة الإنسان العميقة، امتلاك الحقيقة في الجسد والروح.
(ص97 ) شعر المستقبل أو قصيدة المستقبل، بحث مستمر نحو اللانهائي. في الذات وفي الموضوع ،في الجسد والروح، ليس عن حقيقة مكتملة ،او عقيدة آنية ،تنتهي في حاضرها، لأنها وسيلة لتحقيق فائدة ما. ومن هنا لا علاقة لها بالشعر، وبروحه العميقة. قد يستفيد الشعر من كل التراكمات التاريخية التقنية، في الوسائط الجديدة. في الشكل والوزن والإيقاع. يقول سركون بولص أنا مازلت أبحث، ما زلت أعثر على أشياء كل يوم، الاختبارية كلمة السر، أي أن الحقائق اللانهائية موجودة مبطنة في اللغة نفسها، ولكن الشاعر أو الأجيال الشعرية إذا استكملت وأخلصت فإنها بشكل جمعي ستكتشف. هي ذي ضربة النرد في الشعر، تغامر بكل شيء. الفكرة ليست الوزن أو النثر. أي يجب أن نتوفر على ما يسميه جون كيتس بالقدرة السالبة، أي تكسير أصنامات معينة والبحث عن شكل جديد ، شكله هو الذي يعرف به لغة وبناء وموقف من العالم. ولنا في تاريخ الشعر العالمي أمثلة كثيرة، أذكر على سبيل المثال الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، الشاعر الذي لم يعرف شعره إلا بعد وفاته. أجمل ما كتبه ، كتبه في سن ثمانية عشر سنة، وتوقف عن الكتابة في سن السابعة والعشرين، وقضى نصف حياته في السفر والترحال، وتوفي في سن السابعة والثلاثين. يقول سركون بولص، الشعر لا يعقلن، وكل شاعر يأتي بنظريته يعرف جيدا أن هذه النظرية مؤقتة. أنظر إلى التاريخ تاريخ شعرنا، هناك نظريات، غير أنها لا يمكن أن تدوم. لأن النظرية إذا قامت لا بد أن تنهار. الشعر لا يتوقف. إنه ديالكتيك مستمر.
وحركة مستمرة. وهذه القدرة السالبة هي وحدها التي تستطيع أن تكتب الأشياء.(ص191 . سركون- حوارات).
وهي ما يجعل الشاعر يمضي إلى أماكن مجهولة ويستكشف. نحن في النهاية مجرد مستكشفين.
أي ليس هناك شيء نهائي. ربما كتبت قصيدة مختلفة غدا(ص192 )
فقصائد المستقبل بهذا المعنى مثل رقائم في المجهول، لا يدري الشعراء إلى من تصل في يوم ما،
في أي عصر. هناك شعراء وقصائد تغيب عن الوعي البشري لسنوات وأجيال لمئات وآلاف السنين ثم تكتشف لسبب ما.
لذلك هناك شعراء يكتبون لعصر آخر.
أو ربما يكتبون لعصرهم، لكنهم سيلمسون قلب عصر آخر.(ص201 ).

جمال أمّاش (المغرب-يونيه2019)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top