بدأ قرص الشمس يتلاشى وراء الأفق , وبدأ الليل امتداده ..كانت ناجيَّة تشعر أن الوقت يمضي ثم يتكوّم ويبدأ من جديد. والموج يضرب الصخور وتُصْدِرُ الريح التي تمر بين الصخور المدببة صوتاً كصوت احتراق الجلد . الوقت يضيع ويعود ثم يضيع ..مئات الآهات شقت الليل ثمَّ انطفات معه ..مئات الأمواج تحطمت واستمرت تتحطم . ..مئات االزفرات قطعت العتمة .
قالت ناجيَّة لحماتها ” زاهيّة ” وهي تنهض إلى غرفة نومها:
ـ أيقظيني عند السحور لأنني نويت الصيام
لم تهتم حماتها الماكرة , بل تركتها وهي تتمتم:
ـ وهل سيقبل الله صيامك وأنت تستقبلين الغرباء وزوجك مسافر ؟
شعرت ناجيّة بتمتمات حماتها, لكنها مضت إلى غرفتها وصفعت الباب خلفها . ثم ألقت بجسدها على السرير ككيس من الرمل . وأحست وهي ترفع ساقيها عن الأرض أنها متعبة بل كتلة من تعب قديم جداً , وأن طابوراً من النمل يتسلق جسدها , وصليلاً حاداً ينخر عظامها ويستوطن فيها . لم تكن قادرة على التفكير . فقد كانت تشعر أن ثقباً كبيراً يملأ جمجمتها , وتسقط منه الأفكار وتتشوش وتضطرب . وسيطر عليها إحساس بالنهاية , نهاية لكل شيء . وهذا الإحساس كانت تعرف أنه ليس نتيجة اللحظة ذاتها بل بدأ يتكوّن ويتكامل منذ اللحظة التي وصلها التهديد بالقتل إن لم تتوقف عن استقبال العميل جوني في منزلها .
فقد مرت عليها الأيام القليلة الماضية ثقيلة وقاسية كالصخر ، تحاصرها الجدران والبيوت وعيون الناس . وحين تسير في دروب القرية ,كانت تتخيلهم يخرجون من جدران المنازل ،أو تنشقُ عنهم الأرض ،أو ينزلون من السماء .كانت تراهم جيداً ، ولكنها لم تستطع أن تميز وجوههم . ولعلها لهذا السبب باتت تخاف الليل وتكره الظلمة . وحين تودِّع الشمس القرية ناشرة شعاعها الأحمر على الأفق الغربي ,كان يسكنها رعب جنوني .
فتترك الضوء مضاءاً حين تنام . لم تعد تهتم بأناقتها وتزيين وجهها .كما كانت تفعل فيما مضى ، لينالها قسط من المجون حين يزورها جوني ليرى نورهان وهو بصحبة أحد أصدقائه . فكانت حينذاك تصبغ وجهها بألوان فاقعة , بعكس نورهان التي لم يكن وجهها بحاجة لرتوش . فوجنتاها حمراوان على الدوام ،
وعيناها الزرقاوان تشعان بريقا ،وكان جسمها مكتنزاً لذا كانت خالتها ناجّيَّة تقول لها : ليتكِ تمنحيني قليلاً من ( الهُبر ) علني أبدو اكثر اكتنازاً . فقد كان همها اليومي في غياب زوجها أن تبدو مثيرة ،لكنها كانت تبدو هزيلة مهما حاولت أن تحسر عن مفاتنها . لذا تتحين الفرصة لتضحك ضحكتها المثيرة في بدايتها والتي تتحول إلى همس وتنهيد في نهايتها . كاشفة عن أسنانها التي اصفرت من كثرة التدخين
لكنّ نورهان لم تكن لترتاح لسلوك خالتها ولم تجد لها مبرراً للّهوِ مع أصحاب جوني .بل أنها طلبت من جوني أكثر من مرة أن لايصطحب معه أحدا . وكان يرفض لضرورات أمنية .كانت نورهان تحب جوني قبل أن يجتاح الإسرائيليون القرية ويثيروا الفتنة بين الدروز والشيعة ، وجوني كان يحبها . وأهله رفضوا أن يتزوجها لأن ذلك سيخرجه من االطائفة الدرزية ويجعله مرتداً يتوجب عقابه .لكن معادلة عشقهما اختل توازنها بعد الإحتلال .وبعد ان أصبح جوني عميلا لإسرائيل .أما الخالة زاهيّة لم تكن سوى وسيط للقائهما . لذا لم تبرر نورهان سلوك خالتها.
وقد نبهتها كثيرا لمغبات ماقد تتعرض له لو علم زوجها بماتفعله .
لكن كل شيء تغير بعد إصابة جوني .فقد كانت ناجيّة تقذف جسدها إلى السرير متهالكة غارقة في عرقها وخوفها ولم تعد نورهان تزورها واعتكفت في منزلها بعد المجزرة ..ولم تزر جورج في مشفاه وكأنها كانت تتمنى له تلك النهاية .أو أنها كانت تلتقي به في الأيام الأخيرة خوفاً منه .لاحباً به .وباتت ناجية تنهض من نومها كالمخبولة، تفتح الخزانة وتبحث تحت السرير ..تحت الأرائك ..خلف الستائر القديمة . لعل أحداً يترقبها .لكن دون جدوى !! ثم تنسكب على السرير بحرارتها المرتفعة . ثم تعود لتفتح النافذة وتستقبل الهواء . ولم تعد تخرج من بيتها . حبست نفسها فيه بعد أن قررت أن تصوم وتصلي لله لعل معجزة تحدث وتنقذها .
لكنَّ سحمر… آه من سحمر ..يالها من ذاكرة لعينة تلك التي يتمتع بها أهل
سحمر !!.