مرت على استقراره بهذه المدينة الصغيرة الهادئة المنزوية في أقصى شمال البلاد عند قدم الجبل المحاذي للبحر الذي يلحسه بمياهه الرقراقة منذ الأزل ..
سنتان وثلاثة أشهر وبضعة أيام ..
لا زال يتذكر اللحظات الأولى التي وضع فيها قدميه على هذه البقعة المباركة من أرض الله الواسعة ..
حينما أوقف هدير محرك سيارته ، وهو يتأمل الفضاءات من حوله كما لو أنه دخل مكانا غريبا لم تألفه عينيه من قبل .
مدينة ساحلية لا تبدو ملامحها صاخبة .. بقدر ما تفسح المجال لزوارها لسبر دروبها وأزقتها وشوارعها بدون عناء يذكر ..
فالمدينة تفصح عن وجهها وكل ما تحتويه من مباني وشوارع من خلال أول نظرة ..
كل المدينة أو على الأقل كل ما يمكن أن يطلب من حاضرة صغيرة مثل التي نزل فيها لغريب ،
يوفره شارعها الأنيق الذي ينساب على طول كورنيشها .. حيث تشرئب البنايات في الجانب الشرقي على طول الشارع ،
تعرض مختلف الخدمات التي يحتاجها السكان والزوار معا .. بعض الفنادق والمقاهي والمطاعم ومؤسسات بنكية وتجارية وغيرها .. بينما توارت الخدمات الأخرى التي عادة ما تكون مصدر إزعاج إلى الأحياء والأزقة الخلفية للكورنيش ..
أحس لغريب بنوع من الارتياح والطمأنينة تغمرانه وتجعلانه يقبل بالنزول في هذه المدينة دون أن يلتفت إلى الطريق الذي قاده إليها . لقد وجد ضالته أخيرا في هذا المكان الأنيق والهاديء .. ربما سيكون سحر المدينة الذي خطف لبه سببا مساعدا في تبدل حياته إلى الأفضل ،
وسيمحو أساه وحزنه فيها مع توالي الأيام .. انثالت الأفكار عليه من حيث لم يحتسب ، واجتاحت نفسه وهو في طريقه إلى شقته يسير الهوينا ، بعد أن قضى سويعات يتمشى تحت السماء الصافية وأشعة الشمس الدافئة ، مستفيدا من جولته اليومية في الجزء الغابوي بضاحية المدينة ، والتي تندمج مع أطرافها بسلاسة نادرة لتشكل امتدادا طبيعيا لحدائقها ، وتعبق الأماكن بأريج يعطر النسائم التي تهب عليها ، وهي تعبث قليلا بأغصان الأشجار والأوراق والحشائش .. بدأت تسيطر على تفكيره ذكرياته القريبة والبعيدة في نفس الٱن ، وتستوقفه هواجسها وكل ما تحمله من ٱهات ودموع أحيانا ..
لقد ترك مدينته التي عاش فيها الأوقات الحلوة والمرة وبنى فيها حياته الأسرية والوظيفية وجميع ما يمكن أن يحققه طامح لحياة فضلى .. كان يامل أن تستمر لذتها ودفأها وأن يغنم محاسن الأسرة والأبناء زينة الحياة الدنيا ..
وأن يتجاوز الصراع الذي ينتاب الأسرة كل حين ، وينتهي عادة بخصام تكون القطيعة هي الحالة التي تؤثثه .. يفسر لغريب هذا الوضع باختلاف الأمزجة والمواقف وحب السيطرة والتسلط .. ثقافة موروثة ومكتسبة لم تستطع المعرفة المحصل عليها من سنوات الدراسة الطويلة والنضج الفكري والعلمي أن تخمدها ، وتوقف تلك الملاججة التافهة أحيانا وغير ذات معنى أحايين أخرى ..
فاستمرت النفس الأمارة بالسوء في عنفها وسخطها ولم تراعي الوضع الأسري الذي يتأثر بما يسود فيه من جدال .. لم يجرؤ على اتباع المسطرة المعمول بها في مثل هذه النوازل .. بل ترك الباب مواربا قليلا لربما تعود المياه إلى مجاريها . لكنه لما تأكد من دوام الجفاء والعناد وانقطاع التواصل ، رحل عن مدينته وترك وراءه تاريخه المليء بشتى الذكريات الجميلة والمؤلمة ، ليهيم على وجهه ينشد الراحة والطمأنينة وليبحث عن وسيلة ليعوض بها ما مضى وما سيأتي ،
عساه ينسى خيباته وما احتمل طيلة حياته من مضض الواقع الذي عاشه .. وعن أجوبة لتساؤلات تشغله باستمرار : عن معنى الحياة .. والعلاقات الحميمية ..
وعن سر الدوافع التي تجعلنا في ألفة أو صراع ، في هدوء أو خصام ، في مودة أو جفاء .. وهو يستقبل هذه العواصف من الأسئلة انبرى أمام أعينه تحذيرا كان قد تلقاه من صاحبته منذ فجر علاقتهما ، وشغله طيلة حياته :
– “أنت سيء الحظ !!”
لم يستطع تجاوز نغمة هذا اللفظ المثير والمستفز . حسبه في البداية دلال الفتيات وشقاوتهن في علاقتهن مع فارس الأحلام .. غير أنه ومع مرور الزمن ظل يستفيق على هذه النغمة وهذا الموال ويحسها ويعيشها متجلية ، ويدركها في سلوكها وتصرفها نحوه .. لا يخفي حبه لصاحبته على الدوام ، حبا جعله يتجاوز عنها زلاتها وسوء تقديرها لمحبته لها ولأحاسيسه نحوها ، وتضحيته من أجل استمرار الأسرة مجتمعة مشمولة بالحنان والود ولو صوريا أحيانا . فلم يكن يرى في الفراق ضرورة قصوى خاصة وأن سفينة الحياة لم تجنح بهما ولم تغرق ولم تته عن مرافئها ..
إنما أحيانا وخلال اجتياح هذا الشعور وما يحمله من قسوة على تفكيره ونفسيته ، كان يتظاهر بالتجاوز والنسيان عله يستفيد مما بقي من سنوات العمر ، يدبرها بما قدر له أن يتدبرها وينظر إلى الٱتي من الأيام ، أو لربما ينتظر حدوث معجزة مع توالي الزمن ، وهو يعمل جاهدا على تنقية قلبه مما قد يعلق به من ضغائن ..
جاشت نفسه وهدأ هنيهة يتأمل البحر وقد سكن سكونا غريبا كما لو أنه كان يشاركه في استرجاع ذكرياته والتفكير فيها . تتلألأ أشعة الشمس فوقه بشكل أثار انتباه لغريب فاستطال النظر إليه . ثم حدق إلى السماء الزرقاء ملجأ اليائس والمهموم وهو يهمهم في نفسه بكلمات أقرب إلى الدعوات والابتهالات عله يسترشد بشيء ما …
غاص في أحلامه مرة أخرى واستمر يبسطها في مخيلته مستفيدا من هذه الأجواء العذبة التي تحيط به .. تمشى قليلا وهو على هذا الحال حتى قطع مسافة لا بأس بها على الشاطيء الحصوي .. يسمع خشخشة الحصى وهي تمعك تحت قدميه إلى أن وصل إلى الصخرة التي أعتاد الجلوس عليها والتحديق إلى المدى الأزرق وهو كمن يتطلع لمعرفة ما وراءه ..
مر ما مر من الزمن وهو على هذا الحال ، بين بسط الأحلام وتصفح الذكريات ومشاهدة الأفق الممتد .. حوالي ساعة قضاها بين الأسى والٱلام والتفاؤل بغد أفضل ..
زمنا كان كافيا ليسترجع كل هدوءه وقواه .. ثم انتصب واقفا وانقلب يمشي في اتجاه الشقة .. توالت عليه الأيام وهو في مدينته الهادئة ، تنسخ الأسابيع ما قبلها وتنقضي الشهور بنفس الوثيرة تقريبا . ولغريب يقسم أوقاته بين أنشطته الرياضية والحنين إلى حياته الماضية وأحلامه المستقبلية ، ومداومته على تدوين ما يخالج
سنتان وثلاثة أشهر وبضعة أيام ..
لا زال يتذكر اللحظات الأولى التي وضع فيها قدميه على هذه البقعة المباركة من أرض الله الواسعة ..
حينما أوقف هدير محرك سيارته ، وهو يتأمل الفضاءات من حوله كما لو أنه دخل مكانا غريبا لم تألفه عينيه من قبل .
مدينة ساحلية لا تبدو ملامحها صاخبة .. بقدر ما تفسح المجال لزوارها لسبر دروبها وأزقتها وشوارعها بدون عناء يذكر ..
فالمدينة تفصح عن وجهها وكل ما تحتويه من مباني وشوارع من خلال أول نظرة ..
كل المدينة أو على الأقل كل ما يمكن أن يطلب من حاضرة صغيرة مثل التي نزل فيها لغريب ،
يوفره شارعها الأنيق الذي ينساب على طول كورنيشها .. حيث تشرئب البنايات في الجانب الشرقي على طول الشارع ،
تعرض مختلف الخدمات التي يحتاجها السكان والزوار معا .. بعض الفنادق والمقاهي والمطاعم ومؤسسات بنكية وتجارية وغيرها .. بينما توارت الخدمات الأخرى التي عادة ما تكون مصدر إزعاج إلى الأحياء والأزقة الخلفية للكورنيش ..
أحس لغريب بنوع من الارتياح والطمأنينة تغمرانه وتجعلانه يقبل بالنزول في هذه المدينة دون أن يلتفت إلى الطريق الذي قاده إليها . لقد وجد ضالته أخيرا في هذا المكان الأنيق والهاديء .. ربما سيكون سحر المدينة الذي خطف لبه سببا مساعدا في تبدل حياته إلى الأفضل ،
وسيمحو أساه وحزنه فيها مع توالي الأيام .. انثالت الأفكار عليه من حيث لم يحتسب ، واجتاحت نفسه وهو في طريقه إلى شقته يسير الهوينا ، بعد أن قضى سويعات يتمشى تحت السماء الصافية وأشعة الشمس الدافئة ، مستفيدا من جولته اليومية في الجزء الغابوي بضاحية المدينة ، والتي تندمج مع أطرافها بسلاسة نادرة لتشكل امتدادا طبيعيا لحدائقها ، وتعبق الأماكن بأريج يعطر النسائم التي تهب عليها ، وهي تعبث قليلا بأغصان الأشجار والأوراق والحشائش .. بدأت تسيطر على تفكيره ذكرياته القريبة والبعيدة في نفس الٱن ، وتستوقفه هواجسها وكل ما تحمله من ٱهات ودموع أحيانا ..
لقد ترك مدينته التي عاش فيها الأوقات الحلوة والمرة وبنى فيها حياته الأسرية والوظيفية وجميع ما يمكن أن يحققه طامح لحياة فضلى .. كان يامل أن تستمر لذتها ودفأها وأن يغنم محاسن الأسرة والأبناء زينة الحياة الدنيا ..
وأن يتجاوز الصراع الذي ينتاب الأسرة كل حين ، وينتهي عادة بخصام تكون القطيعة هي الحالة التي تؤثثه .. يفسر لغريب هذا الوضع باختلاف الأمزجة والمواقف وحب السيطرة والتسلط .. ثقافة موروثة ومكتسبة لم تستطع المعرفة المحصل عليها من سنوات الدراسة الطويلة والنضج الفكري والعلمي أن تخمدها ، وتوقف تلك الملاججة التافهة أحيانا وغير ذات معنى أحايين أخرى ..
فاستمرت النفس الأمارة بالسوء في عنفها وسخطها ولم تراعي الوضع الأسري الذي يتأثر بما يسود فيه من جدال .. لم يجرؤ على اتباع المسطرة المعمول بها في مثل هذه النوازل .. بل ترك الباب مواربا قليلا لربما تعود المياه إلى مجاريها . لكنه لما تأكد من دوام الجفاء والعناد وانقطاع التواصل ، رحل عن مدينته وترك وراءه تاريخه المليء بشتى الذكريات الجميلة والمؤلمة ، ليهيم على وجهه ينشد الراحة والطمأنينة وليبحث عن وسيلة ليعوض بها ما مضى وما سيأتي ،
عساه ينسى خيباته وما احتمل طيلة حياته من مضض الواقع الذي عاشه .. وعن أجوبة لتساؤلات تشغله باستمرار : عن معنى الحياة .. والعلاقات الحميمية ..
وعن سر الدوافع التي تجعلنا في ألفة أو صراع ، في هدوء أو خصام ، في مودة أو جفاء .. وهو يستقبل هذه العواصف من الأسئلة انبرى أمام أعينه تحذيرا كان قد تلقاه من صاحبته منذ فجر علاقتهما ، وشغله طيلة حياته :
– “أنت سيء الحظ !!”
لم يستطع تجاوز نغمة هذا اللفظ المثير والمستفز . حسبه في البداية دلال الفتيات وشقاوتهن في علاقتهن مع فارس الأحلام .. غير أنه ومع مرور الزمن ظل يستفيق على هذه النغمة وهذا الموال ويحسها ويعيشها متجلية ، ويدركها في سلوكها وتصرفها نحوه .. لا يخفي حبه لصاحبته على الدوام ، حبا جعله يتجاوز عنها زلاتها وسوء تقديرها لمحبته لها ولأحاسيسه نحوها ، وتضحيته من أجل استمرار الأسرة مجتمعة مشمولة بالحنان والود ولو صوريا أحيانا . فلم يكن يرى في الفراق ضرورة قصوى خاصة وأن سفينة الحياة لم تجنح بهما ولم تغرق ولم تته عن مرافئها ..
إنما أحيانا وخلال اجتياح هذا الشعور وما يحمله من قسوة على تفكيره ونفسيته ، كان يتظاهر بالتجاوز والنسيان عله يستفيد مما بقي من سنوات العمر ، يدبرها بما قدر له أن يتدبرها وينظر إلى الٱتي من الأيام ، أو لربما ينتظر حدوث معجزة مع توالي الزمن ، وهو يعمل جاهدا على تنقية قلبه مما قد يعلق به من ضغائن ..
جاشت نفسه وهدأ هنيهة يتأمل البحر وقد سكن سكونا غريبا كما لو أنه كان يشاركه في استرجاع ذكرياته والتفكير فيها . تتلألأ أشعة الشمس فوقه بشكل أثار انتباه لغريب فاستطال النظر إليه . ثم حدق إلى السماء الزرقاء ملجأ اليائس والمهموم وهو يهمهم في نفسه بكلمات أقرب إلى الدعوات والابتهالات عله يسترشد بشيء ما …
غاص في أحلامه مرة أخرى واستمر يبسطها في مخيلته مستفيدا من هذه الأجواء العذبة التي تحيط به .. تمشى قليلا وهو على هذا الحال حتى قطع مسافة لا بأس بها على الشاطيء الحصوي .. يسمع خشخشة الحصى وهي تمعك تحت قدميه إلى أن وصل إلى الصخرة التي أعتاد الجلوس عليها والتحديق إلى المدى الأزرق وهو كمن يتطلع لمعرفة ما وراءه ..
مر ما مر من الزمن وهو على هذا الحال ، بين بسط الأحلام وتصفح الذكريات ومشاهدة الأفق الممتد .. حوالي ساعة قضاها بين الأسى والٱلام والتفاؤل بغد أفضل ..
زمنا كان كافيا ليسترجع كل هدوءه وقواه .. ثم انتصب واقفا وانقلب يمشي في اتجاه الشقة .. توالت عليه الأيام وهو في مدينته الهادئة ، تنسخ الأسابيع ما قبلها وتنقضي الشهور بنفس الوثيرة تقريبا . ولغريب يقسم أوقاته بين أنشطته الرياضية والحنين إلى حياته الماضية وأحلامه المستقبلية ، ومداومته على تدوين ما يخالج
من أفكار لينهي روايته التي بدأ كتابتها منذ أن حط الرحال بهذه المدينة الصغيرة .. لا يسأم من الكتابة وقراءة ما يخط المرات تلو الأخرى ، حتى يتأكد من صلاحية أفكاره وتسلسلها وتناسقها ووضوحها ..
لقد أشرف على إتمام روايته ، ولو أن الفصل الذي هو بصدده الٱن أخذ منه وقتا وجهدا وتفكيرا خاصا . لقد اندمج في أحداثه وأحبه وبات أقرب إلى قلبه من باقي الفصول الأخرى .. اندثر النهار ولم يبق له أثر ، وغزا السواد الشاطيء واحتجبت السماء والغابة تحت جناح الليل ، فحث على السير إلى حال سبيله مستنيرا بأضواء الكورنيش التي تدله على الطريق . ذهب لغريب في نومه بمجرد ما أن استلقى على سريره ،
كما لو أنه كان ينتظره في مضجعه . لقد كان في حاجة إلى النوم والراحة بعد العياء الذي اعتراه جراء المشي الطويل في أطراف الغابة والشاطيء . بل أن الأرق الذي عانى منه أثناء الشهور الأولى من استقراره بمدينته هذه ، عوض بكثرة النوم الٱن الشيء الذي أسعده وجعله يستقبل الحياة بحيوية أكثر ..
اعتاد الجلوس منفردا في مقهاه المفضل على الكورنيش يتأمل البحر والمارة وهم يتراقصون على طول الشارع قاصدين وجهاتهم المختلفة .. والرياح الغربية تهب نسائمها على البحر فتحرك على سطحه أمواجا تندفع في اتجاه المرفأ الذي تتجمع فيه القوارب فتتحرك يمنة ويسرة وتتمايل بتمهل تارة ،
وبقوة تارة أخرى كما لو أنها تتمرن على رقصة مقبلة . ورذاذ خفيف ينزل على الواجهة الزجاجية للمقهى من جهة البحر ويلتصق بها .. امتلأت المقهى بالزبائن على غير عادتها هذا الصباح ، فالجو ينذر بإمكانية هبوب عواصف تمنع البحارة من الصيد والمغامرة في ركوب البحر والمجازفة بقواربهم ..
فهم ينتظرون هدوءها لينطلقوا إلى مراكبهم ويستأنفوا نشاطهم المعتاد .. يجلسون في جماعات صغيرة يتحدثون فيما بينهم عن أنشطتهم والعادي من أمورهم ..
دون إزعاج واضح .. قضى لغريب دقائق وهو يمسح ببصرة فضاء المقهى وما حولها ، ثم غطس بين دفتي كتابه يتمم قراءة رواية خالها مهمة لما ابتاعها ، لكن عنوانها خدعه فاكتشف أنها من نوع الروايات البوليسية وليست ذات قيمة أدبية عالية .. ولغريب لا يروقه مثل هذه الأحداث التي تبسطها الرواية .. فتحمل قراءة بعض الصفحات منها تزجية للوقت في انتظار حلول وقت صلاة الظهر .. هدأت أجواء المقهى قليلا واستمر هذا الهدوء زمنا لا بأس به قضاه لغريب مطرقا تتجاذبه أحداث الرواية التي بين يديه ، وأحلامه التي لا تنفك تبرح رأسه كلما اختلى بنفسه ولو لدقائق .
تائها بين أوجاعه : الأسرة والرحيل والمستقبل .. وفجأة كسر الهدوء بدخول عميمر إلى المقهى ، فحول الزبائن أنظارهم إلى مصدر الضجيج ..
فعميمر ورغم أنه إبن المدينة ويرتاد المقهى باستمرار إلا أنه كلما دخل أو خرج إلا ويحدث ضجيجا . فباب المقهى يفتح إلى الخارج عند الدخول والخروج حتى لا تعبث به الرياح الغربية التي تهب على المدينة .. وفي كل مرة يستنفر النادل فيسرع لتخليص الباب من عنف عميمر مذكرا إياه بقاعدة فتحها . فيصيح هذا الأخير في وجهه : – بدلوا هذه الباب .. أحسن لكم ! . اتجه عميمر رأسا إلى طاولة لغريب ، فخطف كرسيا وذهب به إلى ركن ٱخر حيث طاولة بدون كراسي ..
لم يطلب الإذن من لغريب حين أخذ الكرسي ، ولم يتلفظ بكلمة ، بل بقي يمسحه بعينية ويركز النظر عليه وهو يعبث بالبحث في جيوبه ليخرج سبسيه وصرة صغيرة من القماش ذبلت ألوانها ، يحفظ فيها جريمات من نبتة الكيف المعدة للتدخين .. فما كان على النادل إلا أن منعه منبها إياه بأن التدخين محضور داخل صالة المقهى ، وعليه إن أراد الانتشاء بسبسيه الجلوس في السقيفة .. قام عميمر واقفا واندفع إلى الباب محدثا نفس الضجيج الذي دخل به .. جلس في السقيفة ومج مجتين من سبسيه ثم نفخ فيه . وانطلق يعيد العملية وهو يركز نظره على لغريب دون أن يبادره بالكلام ..
ولو أن الواجهة الزجاجية التي تفصل بينهما تجعل الكلام غير مسموع حتى وإن تحدثا . تظاهر لغريب بالقراءة وتقليب صفحات كتابه لكنه في نفس الوقت كان يسترق نظرات من الزبون المزعج . عميمر من بين الشخوص التي تناولها لغريب في روايته . هذا الشخص إبن هذه المدينة كان يملك قوارب صيد واستطاع جمع ثروة لا بأس بها ، استثمرها في العقار وفي اقتناء بعض الفضاءات التجارية .. ويحكي من يعرفه من السكان أنه تزوج امرأة ثانية فكانت سببا في مشاكل أسرية ،
أجهزت على أنشطته الاقتصادية وعلاقته بزوجته الأولى . فاستفردت كل زوجة بعقار والفضاءات التابعة له . بينما انزوى هو في شقة بإحدى عماراته الصغيرة على الكورنيش .. هناك من يعتبره أحمقا لا يميز في تصرفاته بين الحميد والمقيت من الأفعال والأقوال ، وٱخرون يعتبرونه إنسانا سويا ،
إنما مصدوما لا زال تحت تأثير ما حدث له من مشاكل أسرية .. لكن علاقاته بأبنائه وأهله وكل الناس طيبة وهادئة ..
لقد أشرف على إتمام روايته ، ولو أن الفصل الذي هو بصدده الٱن أخذ منه وقتا وجهدا وتفكيرا خاصا . لقد اندمج في أحداثه وأحبه وبات أقرب إلى قلبه من باقي الفصول الأخرى .. اندثر النهار ولم يبق له أثر ، وغزا السواد الشاطيء واحتجبت السماء والغابة تحت جناح الليل ، فحث على السير إلى حال سبيله مستنيرا بأضواء الكورنيش التي تدله على الطريق . ذهب لغريب في نومه بمجرد ما أن استلقى على سريره ،
كما لو أنه كان ينتظره في مضجعه . لقد كان في حاجة إلى النوم والراحة بعد العياء الذي اعتراه جراء المشي الطويل في أطراف الغابة والشاطيء . بل أن الأرق الذي عانى منه أثناء الشهور الأولى من استقراره بمدينته هذه ، عوض بكثرة النوم الٱن الشيء الذي أسعده وجعله يستقبل الحياة بحيوية أكثر ..
اعتاد الجلوس منفردا في مقهاه المفضل على الكورنيش يتأمل البحر والمارة وهم يتراقصون على طول الشارع قاصدين وجهاتهم المختلفة .. والرياح الغربية تهب نسائمها على البحر فتحرك على سطحه أمواجا تندفع في اتجاه المرفأ الذي تتجمع فيه القوارب فتتحرك يمنة ويسرة وتتمايل بتمهل تارة ،
وبقوة تارة أخرى كما لو أنها تتمرن على رقصة مقبلة . ورذاذ خفيف ينزل على الواجهة الزجاجية للمقهى من جهة البحر ويلتصق بها .. امتلأت المقهى بالزبائن على غير عادتها هذا الصباح ، فالجو ينذر بإمكانية هبوب عواصف تمنع البحارة من الصيد والمغامرة في ركوب البحر والمجازفة بقواربهم ..
فهم ينتظرون هدوءها لينطلقوا إلى مراكبهم ويستأنفوا نشاطهم المعتاد .. يجلسون في جماعات صغيرة يتحدثون فيما بينهم عن أنشطتهم والعادي من أمورهم ..
دون إزعاج واضح .. قضى لغريب دقائق وهو يمسح ببصرة فضاء المقهى وما حولها ، ثم غطس بين دفتي كتابه يتمم قراءة رواية خالها مهمة لما ابتاعها ، لكن عنوانها خدعه فاكتشف أنها من نوع الروايات البوليسية وليست ذات قيمة أدبية عالية .. ولغريب لا يروقه مثل هذه الأحداث التي تبسطها الرواية .. فتحمل قراءة بعض الصفحات منها تزجية للوقت في انتظار حلول وقت صلاة الظهر .. هدأت أجواء المقهى قليلا واستمر هذا الهدوء زمنا لا بأس به قضاه لغريب مطرقا تتجاذبه أحداث الرواية التي بين يديه ، وأحلامه التي لا تنفك تبرح رأسه كلما اختلى بنفسه ولو لدقائق .
تائها بين أوجاعه : الأسرة والرحيل والمستقبل .. وفجأة كسر الهدوء بدخول عميمر إلى المقهى ، فحول الزبائن أنظارهم إلى مصدر الضجيج ..
فعميمر ورغم أنه إبن المدينة ويرتاد المقهى باستمرار إلا أنه كلما دخل أو خرج إلا ويحدث ضجيجا . فباب المقهى يفتح إلى الخارج عند الدخول والخروج حتى لا تعبث به الرياح الغربية التي تهب على المدينة .. وفي كل مرة يستنفر النادل فيسرع لتخليص الباب من عنف عميمر مذكرا إياه بقاعدة فتحها . فيصيح هذا الأخير في وجهه : – بدلوا هذه الباب .. أحسن لكم ! . اتجه عميمر رأسا إلى طاولة لغريب ، فخطف كرسيا وذهب به إلى ركن ٱخر حيث طاولة بدون كراسي ..
لم يطلب الإذن من لغريب حين أخذ الكرسي ، ولم يتلفظ بكلمة ، بل بقي يمسحه بعينية ويركز النظر عليه وهو يعبث بالبحث في جيوبه ليخرج سبسيه وصرة صغيرة من القماش ذبلت ألوانها ، يحفظ فيها جريمات من نبتة الكيف المعدة للتدخين .. فما كان على النادل إلا أن منعه منبها إياه بأن التدخين محضور داخل صالة المقهى ، وعليه إن أراد الانتشاء بسبسيه الجلوس في السقيفة .. قام عميمر واقفا واندفع إلى الباب محدثا نفس الضجيج الذي دخل به .. جلس في السقيفة ومج مجتين من سبسيه ثم نفخ فيه . وانطلق يعيد العملية وهو يركز نظره على لغريب دون أن يبادره بالكلام ..
ولو أن الواجهة الزجاجية التي تفصل بينهما تجعل الكلام غير مسموع حتى وإن تحدثا . تظاهر لغريب بالقراءة وتقليب صفحات كتابه لكنه في نفس الوقت كان يسترق نظرات من الزبون المزعج . عميمر من بين الشخوص التي تناولها لغريب في روايته . هذا الشخص إبن هذه المدينة كان يملك قوارب صيد واستطاع جمع ثروة لا بأس بها ، استثمرها في العقار وفي اقتناء بعض الفضاءات التجارية .. ويحكي من يعرفه من السكان أنه تزوج امرأة ثانية فكانت سببا في مشاكل أسرية ،
أجهزت على أنشطته الاقتصادية وعلاقته بزوجته الأولى . فاستفردت كل زوجة بعقار والفضاءات التابعة له . بينما انزوى هو في شقة بإحدى عماراته الصغيرة على الكورنيش .. هناك من يعتبره أحمقا لا يميز في تصرفاته بين الحميد والمقيت من الأفعال والأقوال ، وٱخرون يعتبرونه إنسانا سويا ،
إنما مصدوما لا زال تحت تأثير ما حدث له من مشاكل أسرية .. لكن علاقاته بأبنائه وأهله وكل الناس طيبة وهادئة ..
لا يتحدث عميمر إلى لغريب أبدا رغم مصادفته في طريقه أحيانا . لكنه يركز النظر إليه مطولا حينما يراه ، ويهمهم بكلمات غير مفهومة ثم يتابع سيره بخطى سريعة كما لو أنه يستحث قدميه لبلوغ هدفه قبل الأوان .. حتى لغريب لم يندمج بعد في مجتمع المدينة .. لا يتحدث إلا إلى عدد محدود من الأشخاص ، جلهم ممن يجاور في المسجد أثناء أداء الصلوات المكتوبة ،
والذين لا يتعدوا أصابع اليد الواحدة .. ما عدا ذلك يعيش بمفرده يقضي أوقاته في الجلوس في المقهى ، أو المشي والتجول في أطراف الغابة والكورنيش ، والاستلقاء على رمال الشاطيء أحيانا حينما يكون مزاجه رائقا .. يتأمل البحر وينظم أفكار روايته ويحاول البحث في مخيلته وصفحات ذكرياته على الأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع المشحون بالنفور والحنق ومقاطعة كل أشكال التواصل .. عله يجد جوابا لتلك الإشكالية التي لا تغيب عن ذهنه ، ويرددها في أي لحظة :
– “هل أنا فعلا سيء الحظ ؟”
لم يلحظ عليه أحد ما هو فيه . فلم يطلع أيا كان على حاله ومٱله ومشاريعه .. سمى نفسه لغريب وأعطى لنفسه صفة الأستاذ تارة والأديب تارة أخرى ، ولو أن جل من يقاسمهم الصفوف الأمامية في المسجد لا يهتمون بالصفة الثانية .. ما لاحظوه عليه وعرف به : الاستقامة ومداومة الصلاة في المسجد إلا لماما .. هكذا حددت الصورة التي عرف بها لغريب بين بعض سكان المدينة . وهكذا عاش بينهم ..
وهو يحاول قدر المستطاع الانصهار في الحياة الطبيعية العادية ، والاندماج في مجتمع هذه المدينة الهادئة تدريجيا . صار يلبس لباسهم المحلي المعروف بالجلباب الشمالي الفضفاض والقصير قليلا والشبشب الأصفر ، والقميص الصيفي المتميز .. كما أعتاد على طعامهم وما يقدمه المطعم الذي يتناول فيه وجباته الغذائية .. صمم لغريب على الامتناع عن التواصل مع أي كان عبر الهاتف أو أي وسيلة أخرى ، والاختلاء بنفسه ما أمكن ، حتى ينأى عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو مزاجه ويخل بالتوازن الطبيعي الذي ينشده .. يستعمل هاتفه الذكي في تدوين أفكار روايته وتسجيل خواطره التي عادة ما تنمو وتتوسع لتصبح قصصا ينشرها على صفحته الفيسبوكية ..
لقد غير كل المعطيات الرقمية المعتادة بأخرى جديدة يحفظها لنفسه ، ولم يبدها لأي كان حتى لا تكون دليلا ماديا ومؤشرا على مكان وجوده .. أراد أن يتوارى عن الأنظار وعن كل من له علاقة به .. طمح منذ أن نزل بهذه المدينة إلى أن يبقى نكرة غريبا مستترا متخفيا . ربما يغير من توجهه الحالي مستقبلا أو قد يعود إلى مدينته .. لا يعلم الٱن لذلك زمنا محددا . ساورته مثل هذه الأفكار مرات . إنما لا زال يصر على البقاء خارج التغطية . أعجب بهذه المدينة وبهدوئها وببساطة سكانها وأجوائها العذبة وطبيعتها الخلابة ونسائمها الحلوة ..
فلا يفكر في الرحيل عنها الٱن .. طالما أنه في قمة نشاطه وحيويته وفي كامل قواه العقلية والبدنية . وأن فضاءات المدينة تمنحه متعة لا مثيل لها . ارتمى على أرض مرتفعة حيث تجثم الصخرة التي يرتادها عادة بعد ما أعيته رياضة المشي ، فانزوى إلى هذه الأمكنة ليستريح فيها مدة من الزمن ، ويستأنف بعد ذلك نشاطه الرياضي أو يعود إلى شقته . جلس مطمئنا على الصخرة المرتفعة التي لا يصعد إليها ماء البحر إلا نادرا ..
يراقب حركية القوارب وهي تصل تباعا بين الفينة والأخرى إلى المرفأ لتفرغ حمولتها من الأسماك ، وما تجود به أعماق البحر ومياهه ، والناس متجمهرون حول الشحنات المتنوعة التي يتم عرضها على رصيف المرفأ . لم يكترث لغريب بهذا الصخب والجلبة التي يحدثها تجار السمك والدلالون والصيادون .. بالرغم من أنه حضر مرات هذا النشاط التجاري المحلي الصاخب خلال الأيام الأولى من وصوله إلى هذه المدينة . لاح بنظره يراقب صفاء السماء والجو الهادىء ذو النسيم العطر ،
والشمس ترسل ما تبقى من دفئها على الكائنات والأماكن وهي تميل تدريجيا نحو مغيبها .. اجتاحه مرة أخرى ذلك الحلم الطويل الذي يسيطر عليه على الدوام وهو يتأمل المدى الممتد أمامه والتموجات التي ترسم على سطح البحر بهدوء وتناسق لا مثيل لهما . وانعكاس نور الشمس الساطع على المياه ، فيسير بنظره إلى حيث لا يدري .
لا يترك فضاء من الفضاءات إلا وحدق فيه بإمعان . والهواء البحري العليل ينعش جسمه ويستلذه أكثر فأكثر . يترك لخياله المجال لينفذ إلى الأعماق .. ثم يعود إلى واقعه ويستفيق من أحلامه كلما ازدادت أصوات البحارة صخبا أثناء اجتهادهم في جر القوارب إلى أماكنها بحاشية المرفأ ، وإفراغ حمولاتها بالسرعة المعتادة . يتحدثون بأصوات عالية أحيانا أو يضحكون أحيانا أخرى وهم منغمسون في عملهم بكل جدية ..
ثم تتلاشى تلك الأصوات حولهم ويرتد صداها بعيدا عنهم . أو تندثر بفعل هيمنة أصوات الأمواج التي ترتطم ببطون وجوانب قواربهم .. يفتح لغريب عينيه ويغلقها تبعا لهذا الإيقاع ليذعن في الأخير لغفوة لذيذة انتابته وهو مستلقي على صخرته . فاستبدت به هذه اللذة وأرغمته على الإستسلام لسطوتها .. دخل عميمر كعادته محدثا ضجيجا وهو يفتح باب المقهى .. ويسرع في كلامه وملامحه منخطفة ..
لما بلغ وسط صالة المقهى وقف وهو يشير بيده إلى البحر عبر الواجهة الزجاجية التي تيسر رؤية المرفأ وجزء مهم من الشاطيء .. وهو يصيح دون توقف : – لغريب .. لغريب .. لغريب ..! حاول النادل وبعض الزبائن استفساره عن أقواله .. ليعلمهم بأن لغريب نائم فوق صخرته التي أعتاد الاسترخاء فوقها ولم يتحرك منذ مدة طويلة .. ويضيف بصوت مضطرب : – من العصر إلى الٱن .. ! والوقت يشير إلى حوالي الساعة الثامنة مساء حيت اجتاحت العتمة كل المدينة وأطبقت عليها …
– أنظر يا سيدي .. ربما كان يؤلف كتابا أو رواية أو شيئا من هذا القبيل .. لقد بقي مؤلفه بدون نهاية .. لاحظ سيدي هذه الأوراق .. يتمعن رئيس فرقة الدرك ، التي تسهر على تفتيش الشقة وجمع كل ما من شأنه أن يفيد البحث أكثر ليستجلي حقيقة لغريب .. ويتصفح الأوراق الموضوعة على طاولة صغيرة في ركن بغرفة الجلوس .. دون أن يجيب مساعده …
تبين له ان عدد الأوراق كثيرة منظمة ومبوبة في فصول .. وربما أنها في مرحلة التحرير النهائية
والذين لا يتعدوا أصابع اليد الواحدة .. ما عدا ذلك يعيش بمفرده يقضي أوقاته في الجلوس في المقهى ، أو المشي والتجول في أطراف الغابة والكورنيش ، والاستلقاء على رمال الشاطيء أحيانا حينما يكون مزاجه رائقا .. يتأمل البحر وينظم أفكار روايته ويحاول البحث في مخيلته وصفحات ذكرياته على الأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع المشحون بالنفور والحنق ومقاطعة كل أشكال التواصل .. عله يجد جوابا لتلك الإشكالية التي لا تغيب عن ذهنه ، ويرددها في أي لحظة :
– “هل أنا فعلا سيء الحظ ؟”
لم يلحظ عليه أحد ما هو فيه . فلم يطلع أيا كان على حاله ومٱله ومشاريعه .. سمى نفسه لغريب وأعطى لنفسه صفة الأستاذ تارة والأديب تارة أخرى ، ولو أن جل من يقاسمهم الصفوف الأمامية في المسجد لا يهتمون بالصفة الثانية .. ما لاحظوه عليه وعرف به : الاستقامة ومداومة الصلاة في المسجد إلا لماما .. هكذا حددت الصورة التي عرف بها لغريب بين بعض سكان المدينة . وهكذا عاش بينهم ..
وهو يحاول قدر المستطاع الانصهار في الحياة الطبيعية العادية ، والاندماج في مجتمع هذه المدينة الهادئة تدريجيا . صار يلبس لباسهم المحلي المعروف بالجلباب الشمالي الفضفاض والقصير قليلا والشبشب الأصفر ، والقميص الصيفي المتميز .. كما أعتاد على طعامهم وما يقدمه المطعم الذي يتناول فيه وجباته الغذائية .. صمم لغريب على الامتناع عن التواصل مع أي كان عبر الهاتف أو أي وسيلة أخرى ، والاختلاء بنفسه ما أمكن ، حتى ينأى عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو مزاجه ويخل بالتوازن الطبيعي الذي ينشده .. يستعمل هاتفه الذكي في تدوين أفكار روايته وتسجيل خواطره التي عادة ما تنمو وتتوسع لتصبح قصصا ينشرها على صفحته الفيسبوكية ..
لقد غير كل المعطيات الرقمية المعتادة بأخرى جديدة يحفظها لنفسه ، ولم يبدها لأي كان حتى لا تكون دليلا ماديا ومؤشرا على مكان وجوده .. أراد أن يتوارى عن الأنظار وعن كل من له علاقة به .. طمح منذ أن نزل بهذه المدينة إلى أن يبقى نكرة غريبا مستترا متخفيا . ربما يغير من توجهه الحالي مستقبلا أو قد يعود إلى مدينته .. لا يعلم الٱن لذلك زمنا محددا . ساورته مثل هذه الأفكار مرات . إنما لا زال يصر على البقاء خارج التغطية . أعجب بهذه المدينة وبهدوئها وببساطة سكانها وأجوائها العذبة وطبيعتها الخلابة ونسائمها الحلوة ..
فلا يفكر في الرحيل عنها الٱن .. طالما أنه في قمة نشاطه وحيويته وفي كامل قواه العقلية والبدنية . وأن فضاءات المدينة تمنحه متعة لا مثيل لها . ارتمى على أرض مرتفعة حيث تجثم الصخرة التي يرتادها عادة بعد ما أعيته رياضة المشي ، فانزوى إلى هذه الأمكنة ليستريح فيها مدة من الزمن ، ويستأنف بعد ذلك نشاطه الرياضي أو يعود إلى شقته . جلس مطمئنا على الصخرة المرتفعة التي لا يصعد إليها ماء البحر إلا نادرا ..
يراقب حركية القوارب وهي تصل تباعا بين الفينة والأخرى إلى المرفأ لتفرغ حمولتها من الأسماك ، وما تجود به أعماق البحر ومياهه ، والناس متجمهرون حول الشحنات المتنوعة التي يتم عرضها على رصيف المرفأ . لم يكترث لغريب بهذا الصخب والجلبة التي يحدثها تجار السمك والدلالون والصيادون .. بالرغم من أنه حضر مرات هذا النشاط التجاري المحلي الصاخب خلال الأيام الأولى من وصوله إلى هذه المدينة . لاح بنظره يراقب صفاء السماء والجو الهادىء ذو النسيم العطر ،
والشمس ترسل ما تبقى من دفئها على الكائنات والأماكن وهي تميل تدريجيا نحو مغيبها .. اجتاحه مرة أخرى ذلك الحلم الطويل الذي يسيطر عليه على الدوام وهو يتأمل المدى الممتد أمامه والتموجات التي ترسم على سطح البحر بهدوء وتناسق لا مثيل لهما . وانعكاس نور الشمس الساطع على المياه ، فيسير بنظره إلى حيث لا يدري .
لا يترك فضاء من الفضاءات إلا وحدق فيه بإمعان . والهواء البحري العليل ينعش جسمه ويستلذه أكثر فأكثر . يترك لخياله المجال لينفذ إلى الأعماق .. ثم يعود إلى واقعه ويستفيق من أحلامه كلما ازدادت أصوات البحارة صخبا أثناء اجتهادهم في جر القوارب إلى أماكنها بحاشية المرفأ ، وإفراغ حمولاتها بالسرعة المعتادة . يتحدثون بأصوات عالية أحيانا أو يضحكون أحيانا أخرى وهم منغمسون في عملهم بكل جدية ..
ثم تتلاشى تلك الأصوات حولهم ويرتد صداها بعيدا عنهم . أو تندثر بفعل هيمنة أصوات الأمواج التي ترتطم ببطون وجوانب قواربهم .. يفتح لغريب عينيه ويغلقها تبعا لهذا الإيقاع ليذعن في الأخير لغفوة لذيذة انتابته وهو مستلقي على صخرته . فاستبدت به هذه اللذة وأرغمته على الإستسلام لسطوتها .. دخل عميمر كعادته محدثا ضجيجا وهو يفتح باب المقهى .. ويسرع في كلامه وملامحه منخطفة ..
لما بلغ وسط صالة المقهى وقف وهو يشير بيده إلى البحر عبر الواجهة الزجاجية التي تيسر رؤية المرفأ وجزء مهم من الشاطيء .. وهو يصيح دون توقف : – لغريب .. لغريب .. لغريب ..! حاول النادل وبعض الزبائن استفساره عن أقواله .. ليعلمهم بأن لغريب نائم فوق صخرته التي أعتاد الاسترخاء فوقها ولم يتحرك منذ مدة طويلة .. ويضيف بصوت مضطرب : – من العصر إلى الٱن .. ! والوقت يشير إلى حوالي الساعة الثامنة مساء حيت اجتاحت العتمة كل المدينة وأطبقت عليها …
– أنظر يا سيدي .. ربما كان يؤلف كتابا أو رواية أو شيئا من هذا القبيل .. لقد بقي مؤلفه بدون نهاية .. لاحظ سيدي هذه الأوراق .. يتمعن رئيس فرقة الدرك ، التي تسهر على تفتيش الشقة وجمع كل ما من شأنه أن يفيد البحث أكثر ليستجلي حقيقة لغريب .. ويتصفح الأوراق الموضوعة على طاولة صغيرة في ركن بغرفة الجلوس .. دون أن يجيب مساعده …
تبين له ان عدد الأوراق كثيرة منظمة ومبوبة في فصول .. وربما أنها في مرحلة التحرير النهائية
والورقة الأخيرة كتبت عليها لفظة “ما يشبه الخاتمة “.. وبضعة أسطر ..
– أرأيت سيدي لم يتمكن من ختم عمله الأدبي .. !
يؤكد المساعد الذي يتابع تصفح الرئيس للأوراق . يجيب الرئيس أخيرا وهو يعيد الأوراق إلى مكانها :
– لقد ختمه هناك .. فوق الصخرة .!
– أرأيت سيدي لم يتمكن من ختم عمله الأدبي .. !
يؤكد المساعد الذي يتابع تصفح الرئيس للأوراق . يجيب الرئيس أخيرا وهو يعيد الأوراق إلى مكانها :
– لقد ختمه هناك .. فوق الصخرة .!