قصة الواد الكبير

جغرافيا هو واد إيناون ..
يأخذ هذه التسمية في كل الوثائق الرسمية وعلى الخرائط من عاليته إلى سافلته .
حيث يمتد على طول مائة كلم أو أكثر بقليل .. من منطقة امسون شرق تازة حيث تبدأ معالمه في التبلور ، إلى حدود مصبه في واد ورغة قرب مدينة تاونات غربا ،
هناك تنتهي رحلته وتتلاشى مياهه وتندمج في مياه واد آخر ، لتجري نحو وجهة جديدة وبإسم جديد ،
بعدما يكون قد وفر للبلاد والعباد أكبر حقينة مائية في الجهة .. بحيرة سد إدريس الأول .. يدعى كذلك الواد لبيض ،
لأن مياهه تتلون بلون التربة البيضاء ، وهي التربة التي تحملها جداول وشعاب وأودية تنزل من سفوح مقدمة جبال الريف ، فتنحت تربتها وتجرفها معها فيتغير لون مياهها وتتحول إلى الأبيض ، بياض التربة العالقة بها ..
ولأن كميات المياه التي يتلقاها الواد لبيض تأتي في معظمها من روافده الريفية ، يغلب لونها على لون المياه التي تنحدر من سفوح جبال الأطلس التي تكون عادة حمراء ، فيحدث أن تتلاشى هذه الأخيرة وتفقد لونها الأحمر بمجرد التقائها بالأولى . فتصير كل مياه الواد بيضاء ..
ويسمى واد إيناون في جزءه القريب من مدشرنا بالواد الكبير . يأخذ هذا الإسم لكونه أكبر المجاري المائية التي تمر عبر مدشرنا أو بجواره .. وهي عدة سيول وشعاب وجداول .. كشعبة النازلة و شعبة خندق الزيتون ، وشعبة الجرنيط ، وواد مزاورو .. وتصب كلها في الواد الكبير ،
وهي مجاري مائية أطلسية .. والمعروف أن جل هذه التسميات التي يأخذها واد ايناون ، ترتبط بفترة فيضانه خلال فصل الشتاء وفصل الربيع ، حيث يزيد حجمه وكميات المياه التي تملأ سريره والتي تأخذ اللون الأبيض الذي يميزها .. فيصير أبيضا .. ايناون .. أمليل ..فيما تصبح مياهه صافية شفافة إبان فصل الصيف وفصل الخريف حيث تتراجع إلى مستويات أقل ..
وتجف في المقابل معظم المجاري المائية الأخرى التي تغذيه ، متم شهر يوليوز .. وفي أغلب السنوات .. من خصائص هذا الشريان المائي الذي يقطع بلدتنا ، أنه هو المسؤول عن السهل الخصب الذي تشكل خلال توالي فترات النحت والترسيب الطويلة والذي يخط فيه مجراه بأشكال ووضعيات مختلفة .
فبعدما يكون ضيقا عند القنطرة البيضاء شرقا ، يبدأ في الإتساع بعدها راسما منعرجات متعددة في سهله الفيضي ليشكل حصبات شاسعة أحيانا تمثل مجاله الحيوي . ثم يضيق واديه بعد مغادرته مجال مدشرنا فيصير خانقا ينحث سريره بصعوبة في صخور جبال الطواهر الأطلسية ، لينفتح بعدها على فضاءات أوسع متجها نحو الغرب .. شكل الواد الكبير عند حدود مجال مدشرنا حصبة واسعة ، تمتليء بمياه فيضان الواد أثناء الفصول المطيرة فيرتفع منسوب المياه فيها ، ويتحول على إثرها الواد إلى أداة تدمير للأراضي الفلاحية المجاورة للحصبة والمطلة عليها ، حيث تذوب تربتها الهشة وتنجرف مع مياهه الهائجة فتتوسع هذه الحصبة بشكل مطرد ويتغير مجرى الواد تبعا لذلك التوسع . حتى أن عددا من الأسر فقدت أراضيها التي ذابت في مياه الواد الكبير وجرفتها مياهه إلى الملاعب .. والملاعب إسم يطلق على بداية خانق الطواهر ، حيث تتجمع المياه ويرتفع مستواها فيزداد هيجانها وتتقوى أمواجها . للواد الكبير فضائل كثيرة علينا وعلى بلدتنا ككل ..
فإذا كان يخرب ويبدد الأراضي الفلاحية على قلتها وضيقها ومحدوديتها ، فإنه بالمقابل يوفر نعما أخرى شكلت إلى وقت قريب موارد يستغلها السكان في تصريف شؤونهم ، وقضاء بعض حاجياتهم الضرورية و التكميلية ..
حينما ينحصر الواد إلى سريره العادي يفسح المجال للشباب والمراهقين والأطفال بارتياد كلتاته والسباحة فيها ، لدرء آثار ومخلفات فصل الحر الطويل الذي يجتاح بلدتنا .. حيث يوفر في جزءه المجاور لمجال مدشرنا ثلاث أو أربع كلتات متفاوتة العمق والاتساع ، كنا نستغلها في السباحة والاستجمام بمجرد انتهاء الموسم الدراسي ..
وهي كلتة بنصدوق وكلتة الصفاحة وكلتة السوطوار .. وكلتة الشباك التي فقدت قيمتها بسبب الطمر الذي لحقها مع الزمن .. إنها أسماء محلية لتصنيف بعض أجزاء الواد العميقة ، وفصلها عن أجزائه الضحلة كالمشرع ،
الذي هو الجزء المخصص للعبور نحو الضفة الأخرى من الواد .. منحتنا هذه الكلتات فرص تعلم السباحة وكل أشكال الغطس والعوم والمرح واللعب في الماء .. ولعل كلتة السوطوار كانت الملاذ الدائم لنا خلال فترة السباحة الصيفية لوضعها الفريد ، حيث تعلو ضفتها اليسرى مصطبة بحوالي متر عن سطح الماء ، فكانت تغرينا بالقفز منها إلى الكلتة ..
ونحن نتفنن في ابتكار كل أشكال القفز والحركات البهلوانية .. أما كلتة الصفاحة فكانت عبارة عن صخرة منضوضة تغوص في الماء من الضفة اليمنى للواد ، فكنا ننزلق من فوقها نحو أعماق الكلتة ، وكنا نلجأ إليها لانسدال الظل عليها قبل غيرها حيث يحجب الجرف الذي يحوطها من الجهة الغربية أشعة الشمس الحارقة . بينما بقيت كلتة بنصدوق ذلك الفضاء الذي لم نرتده كثيرا ، لما كان يحكى حولها من خرافات وأساطير نقلها الأولون للآخرين ..
مفادها أنها ابتلعت فارسا وجواده وهما يتأهبان للإستحمام فيها .. كما أن وضعها الطبيعي شكل لدى سكان مدشرنا نذير شؤم ، فكانوا يتوعدون برمي أنفسهم من فوق جرفها في حالة غضب أحدهم أو حنقه من شيء ما يحصل في حياته كنزاع عائلي أو غيره ، أو يهددون عدوهم بالإلقاء به من هذا العلو في حالة حصول الخصام أو الشجار بينهم ..
فهو أعلى جرف في هذا الجزء من الواد ، حيث يعلو عن سطح الكلتة بحوالي عشرة أمتار .. استمر تخوفنا من اقتحام كلتة بنصدوق لما كنا نشاهد على سطح مياهها دوامة دائرية ترسم دوما رغم سكونها ، فكانت تفزعنا فنتوجس ولا نتجرأ على الإقتراب منها .. أو نكتفي بالسباحة في الجزء الضحل منها . لم يكن الواد الكبير يوفر لنا فضاءات السباحة فحسب ، بل كان ملاذا أيضا للتنقيب والبحث عن ما قد يعلق بشجيرات الدفلة التي تنمو بكثرة في حصبته الواسعة بعد مرور الحملة . فكنا نلجأ إليها بعد إنحصار المياه عنها إبان نهاية فصل الربيع ، وأحيانا بعد فيضانات فصل الصيف ..
حيث كان الواد يجرف معه النفايات من مطرح جوليان ، وهو المطرح العمومي لمدينة تازة .. مما يفسح لنا المجال لنبحث في الخملة ، عن أي شيء تنقله لنا هذه الحملة من تلك الزبالة .. حيث كنا عادة ما نعثر على أشياء بسيطة كملعقة أو سكين صغير أو أجزاء من لعب الأطفال البلاستيكية ، أو أي شيء تجود به هذه الحملة من أشياء ومقتنيات نجعلها أدوات ووسائل للعبنا نحن أيضا ، في نوع من إعادة التدوير للإستفادة من هذه اللقى . وأتذكر مرة ونحن صغارا نجوب الحصبة بحثا عن شيء ما جلبته لنا الحملة ، إذا برفيقنا في التنقيب يعثر على تلك الشمامة التي يستعملها المصابون بالزكام فيستنشقون رائحتها المعطرة بأريج النعناع ..
كانت قمة الموجودات التى حصلنا عليها خلال ذلك اليوم .. أخذها رفيقنا وفتحها ثم مررها بخيشومه الصغير ، وهو في منتهى الإنتشاء برائحتها ، ويغمض عينيه فرحا بما وجد وبما يشم .. فتحلقنا حوله ونحن نترجاه أن يمنحنا شمة من كنزه الثمين .. لا تتوقف بركات الواد الكبير عند هذا الحد ، بل كان مصدر نعم أخرى .. كان يجود على سكان مدشرنا وسكان المداشر المجاورة الأخرى ، بالسمك الذي لم نكن نتعب كثيرا في جمعه ، فكانت العكرة تنوب عنا في توفيره نصف حي ، سكران كما كنا نصفه ،
نتيجة تسرب المياه العكرة المشبعة بالتربة إلى غلاصيمه فيختنق وتشل حركته ثم يطفو فوق سطح الماء ، ليصبح صيدا ثمينا وسهلا لهواة الصيد في المياه العكرة ..
كنا نصطاد السمك حيا أيضا حينما تكون مياه الواد صافية شفافة . وكنا نفضل الصيد في أواخر فصل الربيع وأيام من بداية فصل الصيف .. ولو أن المرحلة الأولى كانت هي المفضلة ، حيث ينمو السمك ويكثر لوفرة المياه والغذاء ..
نصطاده بالسنارة وهي وإن كانت متعبة قليلا إنما كانت تجلب لنا متعة لا تقاس ، خاصة عندما نخرج السمك من المياه وهو عالق بسنانيرنا .. كنا نحصل في صيدنا هذا على ثلاثة أنواع من السمك .. النهري والبوري والبوق .. وهي تسميات محلية لأنواع السمك التي تعيش في الواد الكبير ..
بينما لم نكن نصادف النون رغم علمنا بوجوده ، إنما كانت العكرة تنوب عنا في إخراجه لنا من مخابئه فنغنمه بدون تعب .. يوفر الواد الكبير نعما أخرى يستفيد منها السكان المجاورون له .. حيث توفر حصباته موارد كثيرة ، خاصة الرمال والحصى والأحجار .. وهي مواد أساسية في أشغال البناء أو في أي عمل آخر من شأنه أن يتطلب استعمال هذه الثروة الصخرية .. ثم هناك الأخشاب وحطب الطهي والتدفئة ، التي كانت الحملة توفر جزءا منها حين تتخلى عنها في حصبة الواد الواسعة .
بينما يلجأ السكان في حالة عدم كفاية ما توفره الحملة من أخشاب ، إلى قطع ما ينمو على ضفاف الواد من نبات البسباس والعريش والدفلة ، وبعض الأشجار التي نمت على ضفافه حيث حملت المياه بذورها فرسبتها في الحصبة أو على جوانب وشط الواد ، فنمت وأصبحت مادة خاما لتوفير الأخشاب كشجر الأوكاليبتوس والسرو .. مع توالي السنين تراجع الإهتمام بالواد الكبير وقلت بركاته على الأقل فيما يتعلق باستغلال ثرواته المائية والنباتية والسمكية والصخرية ..
فقد تبدل شكله وساءت أحواله لما لحق به من مصائب غيرت طبيعة مياهه على الخصوص .. لقد أصبحت هذه المياة المباركة خضراء غامقة وسوداء أحيانا بسبب تزايد تلوثها وإختلاطها بشوائب متنوعة إثر التوسع الحضري الذي عرفته مدينتنا ،
فتزايدت كميات النفايات السائلة التي تفرغ مباشرة في مجرى الواد تبعا لهذا التوسع .. وتنامي حجم المطرح العمومي أيضا فكثرت نفاياته الصلبة وأصبحت هي الأخرى ترسل ما تفرزه من عصارة وسوائل نتنة إلى مياه الواد .. بل انضافت إليها أشكال أخرى من التلوث المرتبطة بانتشار معاصر الزيتون التي استقرت بالقرب من جوانبه بأعداد كبيرة ، فصارت تفرغ نفاياتها السائلة ومرجانها في مياه الواد مباشرة .. فأضحى الواد الكبير أو إيناون أو الواد لبيض .. على غير ما عهدناه وما عشناه من عطاءاته الجمة ، حينما كان حيا جبارا نمرح فيه ونسعد بوجوده بقربنا رغم هيجانه وما يلحقه من دمار للأراضي الفلاحية .. إنما كنا نعتبره جزءا حيويا من ذاكرتنا ومن بيئتنا ..
فتغيرت مياهه حاليا وأصبحت متخنة بكل أنواع السموم الناجمة عن تلوثها ، وانقرضت حيياته وعوضتها طحالب ونباتات لم نألفها في السابق ، بعدما كانت المياه شفافة تضج بالحياة . فتكاثرت على حوافه أشجار العريش وغيرها من النباتات الكثيرة .. حتى صارت كثيفة موحشة لا يقترب منها سكان البلدة .. وأصبحت كل ثروات الواد محمية محصنة بقوة القانون ضد كل من يقترب منها ، وعين الشرطة البيئية عليها ومتأهبة لكل تدخل ..
بينما صارت مياهه عديمة الفائدة .. فتحول الواد الكبير إلى مجرى مفتوح للمياه العادمة ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top