قلم من رصاص بقلم: د. سيد شعبان

بحث عن ذلك المختفي وراء أضابير الأوراق، لقد ترك مشاغباته على صفحاتها البيضاء،كان يجري وراءها في سعادة لا يخشى إلا الكلاب الضالة، رسم للطفولة ألف وجه، حيث تمرح دون قلق أو ترصد، الآن اختفت كل تلك المعاني وراء تلال القهر المستبد باللوحة، أخيرا عثر عليه، لقد انكسر سنه المدبب، أصاب المرض الأصابع الدقيقة، إنها تعاني رعشة مزمنة ما عادت قادرة أن تمسك به، داهمته الهواجس أن يكون القلم الرصاصي أدرج في قائمة المحظورات، انتبه لبعض التقرحات التي غطت ظهره، السياط تترك أثرها رغم مرور الزمن، لو أتيح لقلمه أن يسرد أحلامه لما غبشت الرؤية ولما استحال الظلام سياجا يمنع ضوء الشمس.
حين كان يسطر رؤاه الحالمة طمح أن يغير العالم، استعان بتلك الأداة، كم هي مبدعة حين تحلق في آفاق تتراقص، دون أصغر التفاصيل، ابتسامتها التي لم تغادر شفتيها، الورود تزهو بثيابها، ليتها ظلت كما هي ليرسمها القلم!
هذا محال فقد صار القلم واهنا مثل رعشة أصابعه، تسلل الفأر إلى مخدعه، حلا له أن يأكل ذكرياته، وجد في سجل الاتهام أنه يمتلك أداة من رصاص، ولأنهم يفسرون الأحداث وفق متلازمة الرعب التي غطت سجل الوطن، كثرت الأقاويل وتسربلت صورة التلفاز بعناوين أخبار عن لائحة جديدة تدور حول رصاصات غادرة تسكن قلمه، حاصروه في أمكنة فاسدة، كل الصغار مدانون إن أمسكوا بها؛ الفراشات محال أن تحلق فوق أغلفة الكتب ممنوعة أن تزين ثياب العرس؛ هذا يغضب الرابض فوق صدر الوطن.
تراكمت قائمة الحظر حتى غطت واجهة الفصول المدرسية، امتنع أصحاب المعاشات عن ارتياد المقهى اليتيم؛ ما عادوا يتسلون بمشاغبات رسامي الصفحة الساخرة، صارت الحروف متهمة بنشر الفوضى، أراد أن يعود لحكايته الأولى، اختلس نظرة إليها ماتزال لوجهها حلاوة الصبا.
عثر على صورة لها، بصمة لهذا الزمن المتداعي جراء ألف وشاية تنتهي بالقبو الحجري أسفل القلعة المنسية في تلال القحط التي ضربت البيت الكبير.
لازمته الأحلام المؤجلة أصرت أن يدونها، دون ذلك يكون قد دخل مختارا القبو الحقيفي، لم يفلحوا من قبل أن يطمسوا أثره، استعاد بعض روحه من وراء الصخر ومن بين أنياب الفأر، أمسك ببقايا السن المدبب حيث احتفظت بها؛ ليعاود الحديث عن جمالها، فالنساء مولعات بالزينة حتى ولو كانت الخيوط من نفس مادة حبال المشنقة،
لأول مرة تعاود الابتسامة طريقها إلى شفتيها ذات اللون القرمزي، رغم أن تهدلت مثل شراشيف ثوب العروس ليلة الحناء لكنها بقيت جميلة، بدأ يخط تلك اللوحة التى مضى على نسختها الأولى ما يزيد على أربعين عاما، تبقى للورد رائحته ولو اندس بين طيات الثياب العتيقة، كلما فاح عطرها تقاصر الجرذ الذي اختال يوما مزهوا بأغطية الصفيح التي يتعشقها نجوما سداسية تلوح من مقدمة قبعته.
يسارع أجله؛ ألا يأتيه وهو غافل عن لوحته، ظل يمسك ببقايا السن المدبب حتى أمدته شرايينه بعلبة الألوان، بعد عناء، استطاع أن يرسم اللوحة المعبرة، حقا إنها تشبهها، رغم أنها ارتحلت في غمرات النسيان، لكن بقيت منها رائحة الصبا الجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top