• من مادتي في مجلة الحياة المسرحية .
لا تكن أحمقاً مرتين … قومي اللاذقية .
قِناع الموت
وإذا اعتبرنا العرض حالة انتقائية لعالم شكسبير ( الشخصية الحية على المسرح ) فهو الوحيد الذي من حقه أن يتدخل في مسار الشخصيات ، ويستطيع في الوقت الذي يريد أن يحاورها ، حتى حين تكون متمردة عليه .. أو هاربة منه ( من قدرها ) .. مستنكراً أفعالها من جهته .. ومستنكرة هي مصائرها التي قادها إليه من جهتها .. وما قادت – من وجهة نظره – نفسها إلى تلك النهايات اللمفجعة والشريرة .. لذلك نجد من الضرورة تعريف القارئ غير المطلع على تلك شخصية ويليام شكسبير ، والإجابة على سؤال البعض ممن شاهدوا المسرحية ولديهم رغبة في التوضيح حول اختيار شكسبير ونصوصه .. ومَن هو ويليام شكسبير؟.
في عام ١٨٤١ تُوفِّي أحد كهنة كاتدرائية كولونيا، الكونت فرانسيس فون كيسيلستات. ووَعدَتْ وفاتُه بتقديم إجابةٍ حاسمة على السؤال الذي يدور حوله موضوع : مَن هو ويليام شكسبير؟ ..
كان هذا لأنه من بين مُقتنياتِ هذا الكونت المُتفرقة أحد أقنعة الموتى الذي كان مكتوبًا عليه: «أَثَرٌ خاصٌّ بشكسبير»، وكُتب عليه من الخلف «١٦١٦ ميلاديًّا»، وهو عامُ وفاةِ شكسبير .. ثَمَّةَ اعتقادٌ بأن هذا الأَثَر اشتراه في إنجلترا أحد أجداد هذا الكونت، والذي كان مُصاحِبًا لبعثةٍ دبلوماسية إلى بلاط جيمس الأول، وجرى استرداده في عام ١٨٤٩ من مَحلٍّ للسلع المُستعمَلة في مدينة دارمشتات، وأُحضر من ألمانيا إلى المُتحَف البريطاني على يد رجلٍ يُدعى دكتور لودفيج بيكر، على أنه ليس إلَّا قِناعَ الموت الذي يخصُّ شاعر إنجلترا الوطني.. ومع الأسف، «لا» يُعبِّر قِناع الموت هذا عن صورة شكسبير، لكن الاعتقاد بأنه كذلك أصدقُ تعبيرٍ على الرغبة المُلِحَّة في التعرُّف على هُوية شكسبير.
وفي العرض المسرحي ( لا تكن أحمق مرتين ) اسقاط لهوية شكسبير من خلال استخدم المخرج قرحالي القناع الذي يشبه وجه شكسبير المعروف،موظفاً ذلك في شخصيتي الشبحين اللذان يظهران ويختفياً في طرفي خشبة المسرح ، وكأن ذاكرة شكسبير هي التي تدعوا الناس للوعي ( لا تكن أحمق مرتين ) .
ربما يُعبِّر قِناع الموت هذا عن الشكل «المُفترَض» أن يبدو عليه شكسبير، على عكس الشكل المُثبت على الجدار الشمالي للمذبح في كنيسة الثالوث المُقدَّس في ستراتفورد (أبون) أفون الذي وُضع في عام ١٦٢٢، ويحمل في يديه ريشةً وورقة ، وبعيدًا عن الصورة التي حفَرها مارتن دروشاوت على «المطوية الأولى» (وهي الطبعة التي تضمُّ بين دفَّتَيها مسرحيات شكسبير المُجمَّعة في عام ١٦٢٣)، يُعتبَر هذا الشكل غير الجذَّاب الصورةَ الصحيحة الوحيدة الموثوق فيها لشكسبير المتروكة للأجيال القادمة..
ولأن الجواب على سؤال من هو شكسبير يحتاج إلى التوسع أكثر ، نعود للعرض ، على أن نقدم موجزاً عن وليم شكسبير في نهاية مطالعتنا النقدية .
ومحاكمة شخصيات شكسبير
شكسبير الذي وضع أبطال مسرحياته في ظروف تحتم عليهم ” الفعل – الآن ” .. وعند استحضار الكاتب مجد يونس أحمد لتلك الشخصيات وزجها في مواجهة مباشرة مع كاتبها شكسبير ، بدت منذ لحظة جلوسها على كرسي العرش ( الديكور الأنيق ) تبدو للمشاهد جاحظة العينين ، معنفة الأداء ، وكمن أعلنت سعيها للتمرد ، في محاولة تأنيب ضمير الكاتب ، الذي جعلها تعيش الحرقة واللوعة والعذابات ، مطالبة أياه بتغيير بعض النهايات أو سيرة حياة تلك الشخصيات بسبب ما نالها من الغدر والخيانة والقتل ، فكانت تطواف مؤلم بارد لا ينتهي وتكرار لما آلت اليه من مصائر رغم كل محاولاتها الفاشلة في تغيير مصيرها .
وبذلك كانت قراءة لزمن كما أسلفنا يواجه فيه العالم تخبطاُ كبيراً وحروباً ومجاعة .. مسقطاً العرض تلك الأفكار على إشارة بأن الشر بات يعم العالم ، لذلك لا بد من محاكمة الشر وانهاء دوافعه ، ومقاضاة كل من تسوله نفسه لانتهاك الإنسانية ، ومنها محاكمة شخصيات شكسبير المعاد صياغتها :
الملك لير ” الذي جسده ببراغة الفنان ” هاشم غزال ” نجده وقد تصدعت الأرض الصلبة تحت قدميه عاكساَ بذلك سقوط العالم وتفسخه وتغليب الطمع والجشع على العواطف الانسانية ضاربة عرض الحائط بكل العلاقات الاسرية في مقابل المال والسلطة وبذلك اجتياح العواصف للمجتمعات وبروز قوى الجحود والخيانة والجشع ضاربة كاسحة كل القيم والمفاهيم الأخلاقية التي هي عماد المجتمعات الانسانية ليستبد الباطل ويجول التآمر والغدر جولته مشعلا الفوضى لتعم أخيرا الجريمة ويكون العذاب ونبقى نحن في قبضة الرعب .
كذلك يعبر العرض عبر العرافات صانعات الشر وطباخات المواقف .. إلى هاملت الذي جسده باقتدار ( وسام مهنا ) وتلك المأساة التي عاشها والتي تواجه التناقض بين الفكر والعقل ومحاولته البائسة في تغير المصير الذي يواجهه بسبب حنينه الى حياة سابقة كان يعيشها ، ولكنه يصاب باليأس بعد فشله في النجاح بذلك التغيير في أحداث حكايته ، بسبب رفض وليم شكسبير – الشخصية المسرحية – موافقته على ما يريد ، مكتشفاً أن ماكان هو مجرد عبث وأن الحياة ما هي إلا حماقة وكل ما اعتاد الناس على التمسك به وفعله مجرد أوهام وعبث .
أما عطيل الذي جسد شخصيته المجتهد ” محمد قرحالي ” فقد بدا مواجهاً مصيراً بائساً بسبب وشاية خادعة وغيرة قاتلة ، الأمر الذي حول مصيره إلى مزيج من عذاب وتوق وكراهية أزمته إلى درجة لا يشعر معها براحة إلا في إعلان تعطشه الوحشي للدم .. وهو أنموذج نجح فيه النص تقديم المثال الصارخ لأناس يقعون في أحابيل لا نجاة منها مؤسسة على الدسيسة الغدر .
أما ماكبث الشخصية التي جسدها المبدع في الأداء المسرحي ” مجد يونس أحمد ” فقد بدا كمن قطع الحبل الذي يربط مأساته ببقعة معينة من المكان والزمان، فتغدو تعميمية كونية من ناحية أو معاصرة من ناحية أخرى ، فالعنصر المعاصر الذي يضفي مغزى اليوم على الوضع التاريخي ، كان أعمق رؤية للشر وأنضجها .. إنها كما عاشت لحظاتها الممسرحة حالة من الصراع الهدم مع الخلق ، وصورة معركة خاصة في حرب كونية شاملة ، بل وساحة معركة على امتداد العالم ، تماماً كما كانت روح ماكبث الشكسبيرية التي أصابتها اللعنة .
وبين تلك الشخصيات والأشباح التي تطارها ، تهرب شخصية شكسبير من موقع لآخر،فيما يتابع سوقه الحارس ( الفنان قيس زريقة ) إلى زنزانة الذاكرة ، وبمروره بالشخصيات بدت الحكاية المسرحية تركيبية مشهدياً ( فنياً ) ، استطاعت أن تمرر مقولات فكرية راهنة تدعوا للاغتسال من الحقد .. الشر .. القتل .. الأيادي الملطخة بالدماء .. بدعوة لإيقاف ألة الحرب .. القتل .. الحماقات المتكررة مرات ومرات .