وأخيراً انتهى بناء منزلنا في لبنان
عدت أتفسح مع قبلات الفجر الأولى في ذلك العالم المصغر ” سحمرفي البقاع الغربي من لبنان ”
الذي ظلَّ يسكنني أينما حَلَلْتُُ .حيث كانت القرية تزداد رسوخاً في دمي عقب كل زيارة لها ،حتى ولوكانت مقتضبة . فهذه القرية الصغيرة التي لاتنجح ريشة فنان بوصف جزء من بهائها . كانت أحد المعاقل الرئيسية للعمل الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي . وقد استعصت عليه وعلى محاولاته باختراقها بواسطة مايسمى ( بالحرس الوطني ) و ( جيش لبنان الحر ) ثم( جيش لبنان الجنوبي ) وقد اعتبرها الاحتلال بمثابة خط أحمر ..فقد حوَلت القوات الإسرائيلية خط” وادي مشق ” الذي يقع في مدخل القرية ، إلى خط عسكري . وقد قتلت الحرب الكثير من أبنائها لكنها زادت الباقين شراسة فنسجوا ليلها بالحكايا والأسرار, وملؤوا دروبها بالشهداء . كنتُ فيما مضى عندما أزورها أتوجه صوب النهر وحيدة كالمنومة مغناطيسيا . في حين تمتلئ دروبها بالصخب والحياة . حيث الرجال والنساء الجميلات اللواتي يعتمرْنَ قبعاتهِنَّ ويعملن في الأرض . بينما أذهب لأدس ساقيَّ في ماء النهر واقترب من الشير الكبير الذي ترك والدي بصمته فوقه حينما شقه وهو شاب مع ابن عمه علي مسعود الى قسمين بالبارود الذي سرقاه من المنطقة المحرمة التي جمع فيها الفرنسيون الذخائر. أثناء احتلالهم .وأتذكر كيف لم يكن بوسعي تجاوز تلك الصخرة الضخمة إلا عندما يرفعني أحد الرجال الذين يمدون شباكهم في الماء .فيملك الانفعال نفسي ،ويزغرد الخوف في عينيَّ ،ويأخذ قلبي الصغير بالارتجاف حين أمد ساقيَّ بين شقي ِّ الصخرة العملاقة .حيث يتدفق الماء بكثافة مصدراً صوتاً كالهدير يطغى على كل الأصوات الأخرى للرعاة الذين يملؤون السهول بغنائهم .والنساء اللواتي يجنيْنَ النباتات والأعشاب البرية . لكن اعود والحسرة تأكل قلبي.لأن سحمر التي تعرضت للإحتلال تغيرت فيها أشياء كثيرة . الماء توقف جريانه بين شقي الصخر. ولم يعد يجمعهما سوى حجارة صامتة سوداء ورصاصات فارغة وشظايا طائرات وقنابل عنقودية ، تكومت ككتل هائلة من النفايات . والعلاقة بين الناس والنهر تغيرت أيضاً . فالأطفال لم يعودوا إلى النهر ليتراشقوا بمياهه ، بل أصبحوا يأتون لجمع الشظايا وصناعة الألعاب،وتقليد لعبة الحرب. وحين يطوف الزائر بعينيه ، فإنه يكتشف غياب الصيادين والفلاحين الذين كانوا ينتشرون على ضفتيي النهر، والنسوة اللواتي كن يسبحن في فسحة خاصة بهن لايقربها الرجال . لقد خطفت الحرب أولئك الناس ،وظل الرعاة يحملون الزاد لمناضلي القرية الذين يقومون بعملياتهم السرية ثم يتوارون في المغاور والكهوف .
استعدادا ليوم آخر من النضال والتحدي للاحتلال الغاشم .
انتهى الفصل الأول .