كنّا صغارا ً (الحلقة 12)


كانت شقيقتي الكبرى ” فادية ” مثلاً أعلى لكل من حولها .
فالجميع كان يرغب في صداقتها . لأنهم يتعلمون منها مالايجدونه عند الآخرين .
فقد كانت بالإضافة إلى جمالها الطاغي ،ووجهها الصبوح البشوش ،متفوقة بدراستها ،
وتتمتع بميول أدبية وفنية .فهي رسامة ،وتعلمت عزف العود من والدتي ،
ثم طورت موهبتها ،وقد ورثت عن والدَيَّ صوتاً عذباً. وكانت رياضية فأحرزت ميداليات ذهبية
وحافظت على بطولة سوريا لعدة سنوات .وقد أتاح لها تفوقها الرياضي أن تُدَرِّس الرياضة إلى
جانب التدريس ضمن اختصاصها في اللغة العربية .وقد تم تكريمها أكثر من مرة .
كانت فادية تجري في الملعب حافية القدمين بسبب غلاء ثمن الحذاء الرياضي .
ممالفت نظر مقدم البرامج الرياضية “عدنان بوظو ” وطلب ان يقدموا لها حذاء رياضيا كهدية
كانت تخبئه أثناء فترة التدريب خوفاً عليه .وتنتعله في المباريات .
فادية كانت مثلي الأعلى في الحياة وقدوتي . وكان دورها كبيراً في توسيع مداركي . حيث واظَبَتْ على تدريسي ,وكانت تحثني باستمرار على المطالعة ,وتقصُّ عليَّ مقاطع من بعض القصص , وتنجح في رسم الشخصيات لدرجة تجعلني أشعر بحركتها . ثم تتركني لأتشوق وأتابع القراءة بنفسي . وكانت شخصية ” سلمى كرامة ” بطلة ” الأجنحة المتكسرة” لجبران أولى الشخصيات التي شَعَرْتُ بحركتها وأنفاسها وتنهداتها .التي كانت تزفر في صدري معها .وكم بَكَيْتُ ( حين تابعت الأحداث بنفسي ) مع البطل الذي حالت سلطة المطران والتقاليد دون اتحاده مع سلمى . وحفِظْتُ بعض المقاطع ظهراً عن قلب . كهذا المقطع ( في هذا المكان اجتمع قلبان متحابان ,حال دون اتحادهما التقاليد الاجتماعية والأفكار والعادات وسلطة رجال الدين ) . وكلما تعرفتُ على صبي أكتب له ذلك المقطع بمناسبة ودون مناسبة . ولكم هُزِئْتُ بسببه .كنتُ أتمنى لو أني سلمى ..لأتحدى أبي والمطران ولأرفض الزواج من ابن أخيه . كنتُ أحس أن “سلمى كرامة ” مسلوبة الإرادة لاعزم لها . لم أكن أدرك أن المال وسلطة رجال الدين كانا قادريْن أن يفعلا كل ذلك . وقد وَلَّدَتْ تلك القصة لدَيَّ كرهاً شديداً لرجال الدين . وارتبطت صورهم في ذهني بالتراتيل والتسابيح التي لاتجعلهم يستمعون لتنهدات الفقراء.
وكذلك قصة خليل الكافر الذي طرده الرهبان لأنه انتقدهم ، فعثرتْ عليه الأرملة الفقيرة “راحيل ” مغشياً عليه فوق الثلج .واستمر ذلك الأثر في نفسي حتى بعد أن كَبِرْتُ ، حيث أطلقْتُ على ابنتي اسم رحيل .
فخطبة جبران بالقرويين بعد أن عثر عليه الإقطاعي الشيخ عباس .جعلتني أتصور أن لرجال الدين أظلاف مسننة وأنياب سامة .
كان جبران يحمل على الكهنة انطلاقاً من كرهه اللاشعوري لأبيه وأنا أحمل عليهم انطلاقاً من حبي لأبي .الذي عاش سيَّالات قاسية بسبب غياب أبيه .ولم يصطدف في حياته إلا بالمرائين والمنافقين ورجال الدين ، الذين لم تكن تعاليمهم على المنابر تشبه سلوكهم في الحياة ، والأغنياء الذين لم يتنبهوا أن من حق الفقير ان يسمو بروحه، ويحلِّق بجناحيه .لذلك كنتُ شديدة التفاعل مع ” مرتا ” الفقيرة في رواية جبران حيث كان عزاؤها في كونها زهرة مسحوقة لاقدماً ساحقة .

يتبع ..

وفاء كمال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top