كنَّا صغاراً (الحلقة 21 )

لم أكن يوماً مميزة في دراسة الصيدلة .
رغم أن بعض موادها استهوتني وبرعت بها . واستمريت حتى نهاية السنة الثالثة ،
وانفصلت لأسباب لاتتعلق بالأمور الدراسية. وكانت سنة انفصالي عن الكلية هي انفصال
عن كل شيء في حياتي الماضية . فقدانفصلتُ عن دراسة المواد العلمية وتوجهتُ نحو الأدب كلياً .
وانفصلتُ عن دمشق واستقريتُ في لبنان. وعملت في مجلة لبنانية .وانفصلتُ عن بعض الصداقات التي كونتها بصعوبة. وكان لهجرة شقيقتي الكبرى وزوجها أثر كبيرعلى حياتي. و انفصلتُ بعدها عن الوسط الأدبي السوري وعن خطيبي الطبيب والناقد الأدبي,الذي كنت قد تعرفتُ عليه حين كان مدَرِّس مادة علم الجنين يجمعنا مع طلاب كلية الطب في بعض الأوقات ،لأن المادة موحدة بيننا.
وفي معرض هذا الحديث،تتوارد لذاكرتي صورة شاب دخل أثناء أحد المحاضرات ، وتوجَّه نحو مَنَّصة المُدَرِّس وهمس بأذنه بضع كلمات وخرج من المدَرَّج. فدخلت بعده ” تماضر ” ابنة ” رفعت الأسد ” الذي كان يوم ذاك نائب رئيس الجمهورية السوري لشؤون الأمن القومي وقائد سرايا الدفاع . وكانت متأخرة قليلاُ . وقد زينت وجهها وصففت شعرها بعناية فائقة. كانت جميلة وسمينة بعض الشيء وأكثر مالفتني فيها أظافرها المقلمة والمصبوغة بدقة متناهية . جعلتني أنظر بعدها إلى يديَّ اللتين أحرقتهما الشمس في العطلة وأنا أقطف الزيتون مع أبي في قريتنا في لبنان .وشققهما حَفْري للتربة وأنا أساعد أمي في زرع شتلات الورد والياسمين التي حملناها معنا من سوريا . تلك الزهور الحمراء والبيضاء التي تمثل رمزاً طبيعياً من رموز دمشق التي سميت عاصمةً الياسمين . وظلت هذه الزهور ينبوعاً للجمال، وأغنية للشعراء . تستحق أن تتشقق يداي بسببها .
كان من المعروف عن ذلك المدَرِّس أنه لايسمح لأحد بالدخول بعد بدء الدرس ولا بالخروج ..فأخذ يواري بنظره نحو الاتجاه الآخر من باب المدَّرَّج وشاغل نفسه بالتحرك من وراء طاولته نحو حافة المنصَّة ، محاولاً أن يوحي للطلبة بأنه لم يلحظ دخول تماضر . فعثر وزُلَّتْ قدمه . فأبدى عدم الاهتمام ولم يلحظ معظم الطلاب الحادثة ..لأن معظمهم كان من كلية الطب ، وقد اعتادوا على رؤية تماضر . أما طلاب الصيدلة الذكور فمعظمهم كانوا لايحضرون تلك المحاضرات المشتركة لأن أطباء المستقبل كانوا ينافسونهم على قلوب الفتيات الصيدلانيات.

يتبع ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top