كان محظَّر عليَّ أنا وشقيقتيَّّ التأخر عن المنزل.
فالعودة قبل غروب الشمس أمر مفروغ منه ، لأنه شرط من شروط الاستمرار بالحياة
في هذا الحي المرعب الذي كنا جميعاً نحلم بمغادرته للعودة إلى لبنان .
لكثرة التحرشات التي كنا نتعرض لها، ذكوراً وإناثاً ،وأذكر يوماً كيف حاول أحدهم متابعتي على مدى ثلاثة أيام ،حيث لحظت وجوده قرب الفندق الذي أقوم فيه بتغطية أحداث مهرجان دمشق السينمائي للمجلة التي أعمل بها .مرتين متتاليتين ،.اعتقدتُ بادئ الأمر أنها محض صدفة .وفي يوم آخر وجدته يقف عند ناصية الشارع وانا أنتظر سيارة أجرة. كان الليل قد أغلس بعض الشيء لذا رحتُ أراقبه عن بعد بسبب ارتيابي بأمره.
كان طويلاً جداً منحدر الكتفين واسع الصدر . وكانت تصدر عنه تمتمات غير مفهومة وإيمائات مزعجة .ولأن الإضاءة كانت خافتة بعض الشيء ، كنت ألتفت إليه بين الفينة والفينة لأتأكد أنه لن ينقضَّ علي .وأقنعت نفسي إنه مجرم وسيلاحقني .خصوصاً أنني كنت أقرأ قبل فترة وجيزة من الحدث شيئاً عن الربط بين البنية الجسدية والملامح الوجهية للمجرم . تخيلت ذراعيه طويلتين جداً، دون ان أتمعن بهما .وبدأتْ الوساوس تلعب في رأسي .خاطبتُ نفسي : ـ إنه سيقوم بقتلي دون رأفة . ودون إحساس بالألم . وأنه سوف يمزق ملابسي دون خجل أوشعور بالشفقة . وتذكرت أحد الأفلام التي وَجد فيها أحدهم كيساً من الخيش وسط الحشائش وحين فتحة فوجئ بجثة لامرأة في داخله . وعندما أخبر الشرطة ظنوا انها جثة إحدى المفقودات ،لكن خابت ظنونهم إذ لم تكن هي. وتمكنوا بواسطة الكلاب البوليسية أن يعثروا على ثلاث خيشات أخرى تحتوي جثثاً متعفنة لنساء مقتولات .فاستقليت أول حافلة وقفت قربي ، وصعدت لأتخلص منه .لكن فوجئت به وأنا أجلس على الكرسي يقف ممسكاً بعمود الحافلة الأفقي ،حتى كاد رأسه أن يلامس سقفها لطوله . كنت اتخيل قلة حيلتي لو هوى فوقي مثل هذا الجبل .كان الباص مسرعاً يرتج لدرجة جعلتني أشعر أن السائق الذي كان يراقبني بالمرآة _أو ربما خَُيل لي ذلك _ متضامن معه
توقفت الحافلة وسط الشارع الرئيسي الموصل إلى منزلنا .فترجل ذلك الغريب قبلي . فاشتد وجيب قلبي دون أن أتمكن من التعرض له، لأنه لم يتصرف بوضوح .نزلتُ وهرولتُ باتجاه الحي الذي توصلني نهايته قريباً من حيّنا. لكن حين سبقني أدركتُ أنه يعرف المكان .ازداد رعبي من التدرج بالحارات الضيقة ،خصوصا أنه علي ان أقطع سكة القطار الذي لايمر سوى في الصباح الباكر أو بمنتصف الليل .فالمكان مظلم تماماً ،وحارتنا التي كانت تشتمل بضع محال صغيرة تغلق واجهاتها مبكرا ،وعلى يمينها بستان يدعى بستان “أبو عاصي “سبق وأن انتشرت شائعة أن أهل الحي استيقظوا ذات يوم ليجدوا جثة فتاة مرمية عند النهر ،ولربما سمي الحي حي ( نهر عيشة ) بهذا الاسم لهذا السبب .فقد حركتُ البحث عن سبب التسمية لعل المقصودة هي زوجة النبي (ص) فلم أجدسبباً لتلك التسمية .ولم استطع ربطها بمنطقة قريبة منها تدعى القدم لوجود أثر لقدم الرسول (ص) فوق صخرة في مسجد القدم .كمايدَّعون .وأي قدم تلك التي تظل آثارها على الصخر آلاف السنين؟
فما أن دخل ذلك الغريب الحي وانحرف نحو اليمين .عدتُ أدراجي وقطعتُ الشارع بالاتجاه المعاكس متوجهة نحو قسم الشرطة مذعورة كمن يطاردها مجرم خطر .
قلتُ للشرطي وأنا أرتجف : هناك رجل يلاحقني وأريد أن أعبر السكة للوصول إلى منزلنا .. قال
ـ هل تحرش بك ؟
ـ قلت : لا..ولكنه سيفعل .
ـ قال مادام لم يتحرش بك لايحق لنا القبض عليه .
ـ يجب ان تفعل شيئاً أنا خائفة جداً وهو يلاحقني .
ـ هل تريدي ان تفتحي محضراً ؟
ـ لا إنه قريب ..ويجب ان تقبضوا عليه قبل أن يفر ، إذا لم تصدق أرسل شرطياً خلفي ليراقبه وأنا أعبر السكة
لمس مدير القسم خوفي ووافق أن يرسل معي شرطياً ليساعدني بعبور سكة القطار .وفي الخارج أقنعتُ الشرطي أن يسير بعيداً عني ويراقبه :
دون أن يشعر ،فأبدى الشرطي استجابة .وبدأتُ أخبُّ في خطواتي ، حتى تراءى لي الغريب من جديد .قطعت السكة فبدأ يتباطأ في سيره حتى تجاوزتُه .ثم عاد يسرع حتى أصبح ملاصقاً تماما لي ..التفتُّ فلم أر الشرطي . ففتحت فمي لأصرخ وأستغيث فإذا بالشرطي ينهض من بين الأشجار القريبة من الشارع ويوجه صوبه مسدسه ، أوقفه وقيد يديه ،واصطحبه معه وأنا برفقتهما . اتصل رئيس المخفر بوالدي.الذي حضر مرعوباً . وبدأ التحقيق مع الرجل سأله رئيس القسم :
ـ من أين حضرت قال من بوابة الصالحية
ـ وماذا تفعل هنا على بعد ثلاث كيلو مترات ؟
قال : أريد ان أشتري فرُّوج .ويعني دجاجة مشوية .فصفعه الشرطي على خده وقال:
ـ جاي من آخر الدنيا لتشتري فرُّوج .
فبدأيقسم بالله أنه صادق …ضربه مرة ثانية ،ودفعه نحو الحائط .وأخذ بعدها يقرأ اسمه في بطاقته الشخصية .ويردد : عبد السلام ؟؟ ياسلام ..(الله لايسلم فيك مغزة إبرة )
ودفعه من جديد نحو الحائط وطلب من الشرطي ان يضربه بالسوط
فبدأ يصيح : ( والله لأجلك الميدان كلها مابقى دُوْسْها )
فقال له رئيس القسم بلهجة ممطوطة وساخرة :
( ومن وين بدك تشتري فرْرُّوووووووج )
ثم توجه نحو والدي أتريد فتح محضر بحقه ؟
قال لا : يكفي مافعلتم به لعله يتعظ .
عاد الشرطي يحمل ملفا ً لمجرم تنطبق عليه مواصفات ذلك الرجل .وكان على مايبدو مطلوبا للعدالة .ولديه سوابق في الاعتداءات . لم يقبل والدي ان يدَّعي عليه .فقال رئيس القسم :يمكنكما أن تغادرا ونحن نتكفل بالباقي ولو احتجنا لكم سنتصل بكم .واخذ بياناتنا العائلية من والدي وغادرنا وأنا أحمد الله على تلك الحاسة السادسة التي منحها لي الرب عز وجل حيث جعلني أتوقع الكثير من الأحداث قبل وقوعها نتيجة التدقيق وتمحيص النظر في ظاهر الأمور لإدراك بواطنها ،لكن رغم تلك البصيرة التي ألقاها الله في قلبي مازلت حتى الآن أخاف الخروج من المنزل وحيدة .
يتبع …