الفيلم الهندي veer_zaara فير_زارا
جهّز مناديلك للنهاية!
فهذا عمل يُسامي الملحمة، لحظة سينمائية جميلة وموجعةٌ في الآن نفسه، كل شيء خيالي، وهمي، حادّ، ومع ذلك كل شيء حقيقي. هذا ما يبدو أنه الباعث الأقوى الذي يدعونا للكتابة عن فيلم مضى على عرضه الأول ست عشرة سنة، إيمانا منّا أن الفن الجميل يعيش للأبد. تجعلنا الهند نكتشف تجربة سينمائية مغايرة. كتبها “أديتيا تشوبرا” وأخرجها “ياش تشوبرا” وأنتجتها مؤسسة “ياش راج فيلم”، ليتم عرضها عام 2004.
“شاه روخ خان” و”بريتي زينتا” يقَدمان رائعة من روائع الفن السابع في القرن الواحد والعشرين. ستلاحظ أيضا وجود “راني موخيرجي” في دور “سامية” كمحامية متحمّسة لإظهار الحق وتحقيق العدالة؛ مكافِحة في سبيل كشف السر المنسي في الزنزانة. مع ظهور خاص أيضا لـ “أميتاب باتشان” في دور “تشودري” عم البطل.
نقول لأنفسنا خلال الدقائق الأولى من المُشاهدة: إننا مرة أخرى أمام عمل غنائي احتفالي بكثير من الألواح الفنية الاستعراضية، لكنّ بوليوود تستدرجنا شيئا فشيئا وتفاجئنا بإبداعٍ مختلف، نجد أنفسنا عالقين تمامًا في جوّ رائعٍ متقنٍ للغاية. ونخرج من هذه الساعات الثلاث بمشاعر مختلطة، وبابتسامة على شفاهنا مع إشراقة أمل في قلوبنا. ولن يقول معظمنا إلا عبارة: أحببت الفيلم!
بدون أي إطناب؛ القصة مثيرة للاهتمام وستعرف الطريق إلى فهمها من خلال المواصفات العرقية للشخصيتين الرئيسيتين؛ ذات الأصول المعاكسة، بل وحتى الأماكن تُفصح عن صراع سياسي وتاريخي مستمر. لدينا طرفٌ هندي وآخر باكستاني، وبالتالي فإن الحبكة مبنية على الحب المستحيل بين البطل والبطلة.
لن تطول لحظات البهجة التي يبدأ بها الشريط، “فير براتاب سينغ” و”زارا حياة خان” يغنيّان لحنا عذبا ويركضان بين سهول خضراء خلابة تغري الناظر إليها من خلف الشاشة، فما بال الذي يعيش قُربها لا يفتتِن! وبينما هما يقتربان من بعضهما في لهفة، تُطلق رصاصة مؤذنة بنهاية الاستهلال وبداية الدراما.
الطيارُ القائد في القوات الجوية الهندية؛ “فير” والفتاة الباكستانية “زارا” ابنة السيّاسي “جيهانجير حياة خان” الذائع الصيت في مدينة «لاهور»، لا يعلمان ما ينتظرهما؛ فسيسوء الأمر ويحدث عكس ما كانا يتوقعانه في أسوء الأحوال.
ستكون زنزانة “فير” مكاناً لاسترجاعِ وتذكر معظم الأحداث التي أودت به إلى السجن، وستودي بـ “زارا” لعيشِ سنوات من العذاب والشك؛ كانت تظن بالفعل أنه لقي حتفه مع الركاب في حادثة الباص، الذي هوى من طريق جبلية مؤدّيةٍ للهند.
بدايةً، تتّجه “زارا” إلى دولة الهند المجاورة لبلدها، لكي تُنفّذ وصيّة مربيّتها الأخيرة، وهي نثرُ رمادها في نهر «سوتليج» بمدينة «كيراتبور». تتعرض الفتاة لحادث عرضي ينقذها على إثره “فير” فيتعرف عليها ويساعدها في إكمال المهمة التي جاءت من أجلها، ثم يدْعوها لزيارة قريته البِنْجابِيَة الجميلة، فتقبَل الدعوة لتتعرف أيضا على عمه “تشودري” وزوجته “ساراسواتي”، كما ستستمتع بحضورها مهرجان «لودي» المحليّ.
“زارا” شابّة فاتنة رقيقةُ الأنوثةِ، وهبها الله هدوء ساحرا، ستعجِب الشاب الوسيم الحالم، لقد أعجب بها الطيار الهندي، وعندما كانت عائدة إلى باكستان رفقة خطيبها الذي وصل إلى الهند بحثا عنها بعد أن تأخرت في العودة، لم يستطع “فير” كتم ما يشعر به من غرام تجاهها، فاعترف لها في القطار -قبل أن تغادر- بمشاعر الحب البريئة التي تجتاحه نحوها مُدْ جمعتهما المصادفة.
لم تُبدي “زارا” ردّةً على ما باح به “فير” من أسرار، لكنها تُدرك بعد وصولها إلى باكستان أنها تكن له المشاعر ذاتها. وفي الوقت نفسه هي مضطرة للتخلي عنه، حتى لا تجلب العار لعائلتها التي اتّفقت على زواجها مُسبقا، خصوصا الأب الذي سيؤثّر عدم زواجها بخطيبها المدلَّل “رازا شيرازي” على مستقبلهِ السياسي. بهذه التضْحية ستحيا زارا بائسةً، ولن تصبر كثيرا على هذا الإحساس الذي يؤذي قلبَها، لذلك تُعلم خادمتها “شابو” عن معاناتها، فتتصل هذه بـ “فير” لتخبره عن انكسار سيّدتها.
يشعر البطل بما يدفعه إلى السّفر إليها، لكنّه بعد الوصول، يقابل -أول من يقابل- والدتها “مريم حياة خان” التي ترجوهُ الابتعادَ والنأي، حتى لا يخرّب الزفاف وسمعة العائلة. فما كان منه إلا الاستجابة لرجائها، وعقْد العزم على العودة إلى الهند.
في هذه الأثناء يكتشف الحقود “رازا شيرازي” وجود “فير” الذي يُشعره بالنقص، فيدبّر مؤامرة للإطاحة به بعد أن سيطرت عليه الغيرة البغيضة؛ يكيد له بتلفيق تهمة التجسس على دولة باكستان، التهمة التي سيُسجن بسببها عقدين وسنتين في حبس انفرادي، فهو لم يشأ ذكر اسم عائلة “حياة خان” في التحقيقات.
نهايةً، الله كريم؛ سيرسل إلى “فير” هدية من السماء، تتمثل في المحامية “سامية صديقي” التي ستؤمن بعدالة قضيته، وتحسّ بمدى حاجته للإنصاف، ثم تفتح ملفه وتدافع عنه حتى ينال حريته، فتنجح في ذلك بعد مشوار ليس بالهيّن. فيعود و”زارا” إلى الهند بعد أن يعتذر منه القاضي باسم القضاء وباسم دولة باكستان.
كلّ ذلك مرويّ بمهارة باديةٍ عبر تسلسل مؤثر، ومؤدّى تمثيليا ببراعة؛ الممثلون يتقمصون شخصياتهم ويعايشون أدوارهم باحترافٍ يثير فيك العديد من المشاعر التي ستتشكل كثنائيات متقابلة: الضحك/البكاء/الفرح/الألم… فضلا عن القيم التي ينقلها الفيلم وأهمها التضحية.
انسيابيةُ “شاه” في أداء دور السجين المظلوم الذي لا يتوقع شيئًا أكثر من الحياة، ولطفُ “بريتي” وإتقانها لدور المرأة المحطّمة بسبب حبها الضائع، يأخذانك إلى النهاية العاطفية، شعورٌ خاص؛ فرغم أنك اقتربت من أن تسعد بلمِّ شملهما، لكنك حزينٌ كثيرا بسبب فراقِهما إبّان أعوام الضياع، وعذاب كل منهما بسبب تضحيتهما ليكون الآخرون بخير. شعور سيبقى راسخًا في العقل والقلب والروح.
مزيجٌ من الميلودراما المليئة بالمفاجئات والموسيقى المنعشة الألحان، السيناريو مبني على مصادفات، وغني أيضا بالأغاني الجَذّابة ولاسيما مهرجان «لودي» التقليدي الذي يحتفل بالزواج في الهند، بالإضافة إلى تصميم الرقصات الرائعة والديكورات المدهشة والألوان الفخمة، يا لها من سعادة، يا له من اندماجǃ هذا الشريط متعةٌ نادرة للأذن والعين والعواطف. تحفة سينمائية متميزة.
نحن لا ندرك أننا أُسِرنا لمدة ثلاث ساعات أمام الشاشة؛ وقد يكون هذا ما بثّ في بعضنا شعورا برغبةٍ في اكتشاف أفلامٍ بوليوديةٍ أخرى من هذا النوع!
المسألةُ ليست أنّ جنديا هنديا مسجونا في باكستان يقرر أن يحكي حكايته لمحامية شابة، الأمر أكبر وأبعد وأعمق من ذاك بكثيرٍ جدّا. صناع الفيلم يرسلون للمتلقي: العادي، الناقد، السياسي، رسالةً غاية في الأهمية، وهي أن السياسة التي تمّ اختراعها لخدمة الإنسان، هي لا تخدمه بل تقتله، وفي أفضل الأحوال تفسد حياته. معتوهٌ خسيس بلّغ عن بريئٍ في مقتبل عمره، مُلفقا له تهمة خطيرةً، ولأنه ينتمي لعائلة من عِليةِ القوم في بلده، تَمّ تصديقه من لدن السلطات دون أدنى شك، خاصّة وأن المتهمَ هندي يعمل في جهاز تابعٍ لدولة معادية.
على صعيد آخر ينجح المخرج في استغلال السيناريو، للالتفات إلى المرأة والإفصاح عن حاجة مؤكدة للرقي بشأنها في دولتي الهند وباكستان، كذلك يعبّر بصراحة عن رغبةِ الكثيرين في رؤية علاقات التوتّر والصراع بين هذين البلدين تتلاشى وتنتهي.
الفيلم درسٌ عظيم في الحياة والاحترام والتضحية، درس أيضا في الثقة التي حين تضعها في غير الله يكون حصادها ندما. “فير” الذي يثق في أن الكل أنقياء، ويحبُّ الخير لجميع الناس حتى وإن كانوا لا يستحقون، يتعرضُ لخديعةٍ كبرى سوف تُغرقه في أسْر طويل سيَحرِمه من الحرية خلال أجمل سنين عمره وهي فترة شبابه.
يدفعك السيناريو إلى التوصل بعِبرة مغزاها: أن عدم زرعك للشوك، لن يقِيك أبدا من حصاده…
عبداتي بو شعاب
كلية اللغات والآداب والفنون
جامعة ابن طفيل-المغرب.
المقال وكأنه تصوير الفيلم. رائع جدا هذا السرد النقدي.