لوحات

لوحات :
******

_ لوحة 1 :
أرسمني في غرفة قاتمة متعفنة الجدران، يجافيها الهواء كما الشمس…
تلك المكبلة في سريرها تدخل في نوبة هستيرية من الصراخ والبكاء،
تهتز لها قوائم السرير الحديدي فيرتج دماغي… تهلوس باسمه وتتوعده بالقتل.
كلما ضجت مسامعهم من صراخها سارعوا لحقنها بمهدئ يلجمها إلى حين.
أتظاهر بالنوم كلما سمعت وقع خطواتهم في الممر خوفا من تلك الحقنة
التي تحول دون إكمالي اللوحة. تلك الواقفة أمام النافذة، تقطع الغرفة جيئة وذهابا مرددة:
“سيأتي، سيأتي، لا بد أن يأتي، وعدني بذلك، سأنتظر…
” حين ينال منها التعب، تتسمر أمام النافذة، أحيانا تصيح:
“ها هو قادم، سأصلح مكياجي وتسريحة شعري و…
” تجلس على سريرها، تخرج مرآة من تحت وسادتها،
تنظر إلى وجهها في المرآة وتنفجر ضاحكة:
“هههههه، أنا أجمل منك أيتها اللعينة، كيف سرقته مني؟”
ترمي المرآة وتصفع بجنون خديها… أنشغل بتعنيف ذاكرتي العنيدة التي
تأبى أن تلفظ صورة تؤرقني وتضاعف علة دماغي…
لا أتكلم ولا أصرخ منذ التهم الخبيث، في غفلة مني، حبال صوتي…
لكني أشغل عيني ويدي دون كلل، لا أكف عن مسح كل تفاصيل الغرفة
بنظراتي الطائشة وخربشة جدرانها العفنة المتآكلة…
أعصر ذاكرتي عصرا فتطرح مرغمة ملامح تلك الصورة، تتساقط على كفي بالتقسيط،
أعيد تركيبها، أمسح بكم قميصي مساحة من الجدار، أحفر عليه بذيل شوكة مقصلة،
أثبت الرأس تحتها و… أنام بهدوء. صباحا،
يفاجأ الطبيب المعالج بهدوئي، ينظر إلى الجدار ويهمس للممرض:
“تخلصت من علة عقلها، سأمنحها إذن المغادرة.
” لا أحد ينتظرني، لا أحد… الرياح تعول في الخارج والذئاب تعوي…
تلفظني البوابة، أجدني وسط غابة كثيفة، تلتف حولي الذئاب الجائعة…
رحلت المدينة وأهلها من الناجين…
أراوغ الذئاب، أفر لأحتمي بالمبنى، أرتطم بالفراغ وبقايا سور…

لوحة 2 :

أرسمني في غرفة دار… تلك العجوز،
التي لا تغادر فراشها، تفتح معي تحقيقا عن سجلي المدني، عن الاسم والسن والأهل والزوج والأبناء و… أكتفي بهز رأسي ولا أشبع فضولها، تلتفت إلى تلك التي تجلس على كرسي متحرك طول النهار، تغمزها وتسر إليها كلاما، تنظر إلي وتقول:
“سيأتي عليها يوم وتنطق، اتركيها حتى تقنط.
” أفتح حقيبتي، أخرج مذكرتي وأسجل فيها تاريخا وجملة مبتورة لا أريد أن تستقيم أجزاؤها حتى لا تعلق بذاكرتي. تفتح باب الدار للزيارة عشية كل جمعة، يأتي بعض الأهل وبعض المحسنين يعودون النزيلات، ويوزعون عليهن بعض ما فاض به كرمهم من أطعمة، وحلويات، ومشروبات، وكلام طيب، وبعض حنان يفتقدنه…
يصادف ذاك اليوم يومي السابع في الدار، لم يزرني أحد، أقف خلف النافذة أرقب بوابة الدخول، أبحث بين الزائرين عن وجوه أعرفها…
تعبت ركبتاي العليلتان من طول ما وقفت، أستلقي على فراشي أواسي وجع ركبتي وأخبئ دمعا انفرط على خدي. اقتربت مني إحدى المحسنات، ربتت على كتفي، ومدت إلي علبة حلوى وعصيرا، اعتذرت وادعيت أني صائمة، فنطقت إحدى النزيلات:
“هي تصوم منذ دخلت ولا نراها تفطر، اتركي ذلك عند رأسها إذا أفطرت تناولته.
” أنا لا أصوم ولكني أحتج بطريقتي… ينخفض ضغطي والسكر كل يوم، أفقد توازني ووعيي وأدخل في غيبوبة أتمنى أن لا أعود منها أبدا ولكني أعود، أعود رغما عني لأكمل لوحة “أرذل العمر” في هذه الدار …

لوحة 3

أرسمني جثة متفسخة على فراش بارد، يسرح الدود ويمرح فيها مشبعا جوع بطنه…
تفوح منها روائح نتنة وتنتشر لتزكم الأنوف. يطرق الجيران أبواب بعضهم،
يتساءلون عن مصدر تلك الروائح، يطرقون بابي فلا أستجيب…
يتذكر بواب العمارة ذاك المساء، منذ أيام، حين دخلت، على غير عادتي،
متعبة شاردة الذهن دون أن أنتبه إلى وجوده وأحييه…

خديجة أجانا / المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top