كنّا صغاراً ( الحلقة الأولى ) :
********************************
كنَّاصغاراً حيث كانت أمي تقطع شارع مدحت باشا ( الذي يفصل حي مئذنة الشحم إلى قسمين )
لتمضي بِنَا إلى المدرسة أنا وشقيقي عصام الذي يصغرني سناً .
في هذا الحي الشامي العتيق ( الذي سمي بتلك التسمية لوجود قبة مشهورة يتكاثر تحتها بائعو الشحم ) كانت تقطن الطبقات الفقيرة والمتوسطة مع العوائل الغنية ضمن نسيج إجتماعي متكامل ومتكافل . حيث كان رئيس الجمهورية شكري القوتلي من سكان ذلك الحي وكذلك جميل مردم بيك وناصيف باشا والكثير من الأدباء والفنانين .
كانت المدرِّسات تجتمعْنَ في صفنا أثناء الإستراحة .وقد أثار انتباهي حديثهن عن فتاة تدعى ” وصال ” ، كانت قد انتحرت بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لاتحبه .
فنقلتُ الحديث لأمي لدى عودتنا من المدرسة . توجهت أمي بالسؤال لأبي : أليست وصال هذه بنت الحلونجي ؟ أجاب : بلى …( هذه قصة قديمة جداً .شو يلي فيئهن عليها هلأ )؟ هذه القصة حدثت قبل زواجنا .كنت أنا بعمر نزار وقتها . وكنت ألحق بالجنازة
ـ ربما تذكروها بسبب المدرِّسة التي قالوا أنها انتحرت قبل يومين .
لم أكن أعرف أن وصال هي شقيقة الشاعر نزار القباني ، واكتشفت ذلك لاحقاً . ولو كنت كبيرة حينذاك لكان للموضوع وجهاً خطيراً لدراسة شعر نزار من خلال ربط نتاجه ونرجسيته تجاه المرأة بأنواته البعيدة المتناقضة فهو يصرح : إن “وصال” قتلت نفسها بكل بساطة وشاعرية منقطعة النظير ، لأنها لم تستطع أن تتزوج بحبيبها، … ولازلت أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت. كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية، وأروع من كليوباترا المصرية. حين مشيت في جنازة أختي، وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي، وحين زرعوا أختي في التراب، وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر، وإنما وجدنا في مكانها وردة “. ووالدي يقول :إن الشاب هو الذي تركها وتزوج فتاة أخرى .وحين كبرت ُوأُغْرِمتُ بالأدب قررت أن التقي بنزار . تحرشتُ به من خلال مجلة الناقد . التي كانت تصدر في لندن و شجعني رئيس تحريرها ” رياض نجيب الرَّيس ” من خلال المراسلة على الاستمرار في تلك المعركة لتحريض نزار وإثارة حفيظته لخلق جو من المعارك الأدبية السلمية على صفحات المجلة . لإنعاشها حيث بدأت المجلة تُوَزَع وقدمُزِّقَتْ منها الكثير من الصفحات .وكانت تخضع لمراقبة شديدة .لكن بعد كتابتي عنه أجابني بقصيدة وهو على فراش المرض الذي استفحل لديه ولَم ينتظر طويلاً حتى وافته المنية . رحم الله نزار الذي استطاع بشعره أن يخفف من حدة الصراع بين أناه اللاواعية وبين جمهور يمتلك الكثير من العقد وتخلخل الذات .
يتبع ..