كنَّا صغاراً (الحلقة 15)
كانت امي تحمل أختي الصغرى ” ريما ” على ظهرها كما يحمل الراكون أبناءه ,
وتتنقل بنا من مكان لآخر وتنقل متاعنا . وكانت محطتنا ماقبل الأخيرة في حي شامي عريق يدعى ” الشاغور ” .الذي كان معقلاً مهماً من معاقل المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي. وسمي بهذا الإسم نظراً لغزارة المياه التي تحفر مجاريها تحت دوره لتذهب باتجاه بساتينه وترويه
وقدكان للكثير من سكانه دوراً في نهضة الفكر السياسي الوطني السوري أمثال يوسف العظمة ، و حسن الخراط ، زعيم الثوار الأبرز في دمشق خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925.
وكان سور دمشق القديمة يقسمه إلى قسمين جواني وبراني اما نصيبنا من السكن الجديد فقد كان في الشاغور البراني ,الذي يضم طوائف متنوعة من الناس ( مسلمين ومسيحيين ويهود )..وقد شهد الشاغور فيما مضى تغيرات ديموغرافية أدت إلى هجرة عوائل كثيرة إلى خارج السور , خصوصاً بعد اندلاع الحريق الكبير في منطقة “سيدي عامود ” التي تُدْعَى اليوم بالحريقة . بسبب الحريق الكبير الذي شب فيها نتيجة قذيفة أطلقها الفرنسيون على قبة ” حمام الملكة ” الذي هربت معظم نسائه عاريات , ومن بقيَتْ منهنَّ احترقتْ . ومنذ ذلك اليوم المشؤوم درجت عبارة ” اللي اختشوا ماتوا ” وصارت مثلاً رائجاً .
كان الشاغور البراني يضم عوائل من مختلف الطبقات والجنسيات والمستويات الثقافية . ويحفل بكثير من التناقضات . كان جارنا أبو حمود زجالاً في فرقة تلفزيونية. ويرافقه ابنه في الضرب على الطبل . وكان أخي مسؤولا عن إدارة حفل لفيديرالية الطلبة اللبنانين المقيمين في سوريا ..فأَلَحَّ حمود ابن جارنا على شقيقي ليتيح له المجال للمشاركة في الحفل بإنشاد قصيدة زجلية . وكلما طلب شقيقي منه نَصُّ القصيدة ليطَّلِعَ عليه ,يقول له بكل ثقة : (ولَوْ ياأحمد نحنا اللي اخترعنا الشعر ) . فاضطر أخي محرجاً أن يُشْرِِكَه بالحفل .وماأن وقف على خشبة المسرح ,بدأ يضرب على الطبل وينشد :
(مجد الشرق بيتباهى بحافظ وحسين ) .
كان الخلاف بين الرئيسين في تلك الفترة قد بلغ الذروة .ولكن يبدو أن جارنا المسكين كان بعيدأ كل البعد عن أخبار البلد .
فلم نرَ سوى يد امتدت من خلف الكواليس وسحبت جارنا .
.ودخل عريف الحفل ليقدم الاعتذار للجمهور. بينما عاد حمود في اليوم التالي وعيناه مزينتان بهالتين زرقاوين.
يتبع ….