محمد علوط / ناقد أدبي و كاتب من المغرب
الدار البيضاء 2018
..
كل ترجمة للشعر هي، كما يرى بورخيس، كتابة ثانية، قول على قول و كلام على كلام في التبادل الرمزي لإرث اللغات.
في الترجمة : إشتغال دؤوب لدينامية عودة الأثر. ذاتها اليد التي تكتب تمحو، و كأن الكتابة-الترجمة، أشبه ما يكون (الطرس) أو لوحة المسيد حيث الحبر ينكتب على صلصال محو زائل. شأن ذلك أن نتحدث عن الترجمة كذكرى، فالنص الفرنسي يتشكل من مجموع علامات ذاكرة النص الأول.
بيد أن عمل الذاكرة في الترجمة لا يتخذ فحسب، مسارا إستعاديا بالرجوع إلى ماضي النص الأصل، بل يكتسب زمن الكتابة بعدا خرائطيا حيث الذكرى تتحول إلى سفر استباقي في سيرورة الترجمة: كل ترجمة تدفع بماضي النص المترجم إلى غده، أي أن كل أثر قبلي يشيد أثرا بعديا.
هكذا فإن ترجمة عبد اللطيف البطل لنصوصه الزجلية باللسان العامي إلى مضمار اللسان الفرنسي تندرج أولا فيما يمكن أن نسميه نقديا بالترجمة الذاتية. الذات المترجمة هي في الآن ذاته موضوع إنتقال إلى لغة ثانية، و هو ما يعطي للشاعر المترجم إمتياز في كونه ذاتا و موضوعا.
عودة المنكتب في الترجمة يضع الشاعر عبد اللطيف البطل أمام تحد استطيقي، و هو إذا كان النص الزجلي يتأسس على كونه هامشا للغة عالمية فكيف يمكنه أن يحافظ على هذا الإنتساب و على هذه الخصوصية الجينيالوجية المنتسبة إلى روافد الثقافة الشعبية في نص لغة فرنسية عالمة.
هل فقدت «ألف ليلة و ليلة»، بإعتبارها نصا ينتمي إلى الثقافة الشعبية خضع لإجرائية التدوين، خصوصيته حينما ثمت ترجمته إلى أزيد من 28 لغة عالمية، فاخترق تأثيره الأدب الغربي سواء الفرنسي أو الأنگلوساكسوني أو الأميركي اللاتيني؟ ففي الفصل الأخير من رواية البحث عن الزمن الضائع ل «مرسيل بروست» إستعادة تناصية استلهامية لهذا النص الفريد، الشيء ذاته عند «بورخيس» في محكياته التخييلية.
الجواب يكمن في كون الترجمة ترحلا خرائطيا من البعد المحلي إلى البعد الكوني، ففي ما وراء تغاير اللغات هناك وحدة الإنسان و أيضا تجانس الأنساق الرمزية للمتخيل الإنساني الكوني.
تنطوي الكتابة الزجلية في أصولها على شعرية حرفية و ذلك لأنه من طبيعة الشاعر الزجال كونه يشتغل على الذاكرة الجماعية للثقافة الشعبية من خلال صنعة لغة تتأسس على بعدين :
الإنشاد الشفاهي الطقسي
بنية الإيقاع (نظام الوحدات و القافية)
الإرث اللغوي الرمزي
في النص المترجم يلجأ عبد اللطيف البطل إلى استراتيجية تعبيرية تعتمد الحفر في جمالية الشعرية الفرنسية مجسدة في كبار أسمائها من تيار الشعر الرمزي، بخلق مواءمة بين النص الكلاسيكي و الرومنطيقي. و بالتالي فإن نظام إيقاع الزجل بكل ميراثه السجعي و الثقفواي ينتقل من بنية المساواة و التناظر إلى بنية الإيقاع الكمي و الاحتفاظ بجناس القافية.
أما الإنشاد بكل زخمه الطقوسي المرتبط بالجسد و اللاوعي فإنه في النقل إلى الفرنسية يكتسب صيغة الإنشاد الغنائي الذي يعتمد تارة، غنائية ضمير المتكلم أو غنائية الأنا الجمعي، تارة أخرى، مع حضور خصب و قوي لشاعرية تخاطب الذاتية و الوجدان.
لطالما كانت الشعرية الأوروبية منغلقة على ذاتها، لا تستوعب الآخر الشعري الذي لا ينتمي إلى ميراثها اللاتيني الإغريقي و دليل ذلك أن الوعي بالمشرق في شعر الكلاسكيين كان موسوم بالنبذ و الإقصاء، و يحمد لشعر الحداثة مجسدة في «بودلير، رامبو، لوتريامون، نوفاليس، شيلير، غوته و غيرهم» كونهم انفتحوا على الأفق الشعري الشرقي و دخل كطرف لوعيهم الشعري، لذا فإن ترجمة هذه النصوص هي إخصاب لهذا الوعي الحداثي الذي يجعل الذات في حوار مثاقفة مع الآخر : l’Autre
الذات في الكتابة الشعرية هي دوما طرس و ملتقى الآثار و العلامات و الذاكرات الفردية و الجماعية، و لهذا تكتسي الترجمة عند عبداللطيف البطل بعدا سيميائيا باعتبارها رحلة في رمزية اللغة من أنا أولى إلى أنا ثانية، و معبرا بلاغيا لترحل الكينونة من وطنها الذاتي الى استكشاف أقاليمها الغيرية باستعارة المقولة الشعرية ل«آرثر رامبو» : Je est un autre
وتندرج النصوص الزجلية المترجمة في هذا التأليف ضمن نسق اشتغالين:
إنها كتابة عبرنصية transtextuelle ، أي باعتبارها اشتغالا جوهره تفاعل النصوص في سيرورة الحوار بين نظام لغتين . فالشاعر ينسج لغة بينية، لغة شعرية جمالية تأخذ شكل الجسر بين لسانين، بين أصل و استعادة لا يفقد فيها الأصل عمقه الجوهري و إنما يحاول قوله ك(كلمة ثانية)؛ لذلك فإن الترجمة بالنسبة إليه تندرج في إطار مهمة طموحة و ذكية رغم التعقيدات التي قد تنتج عنها و التي تتجلى في إعادة بناء الأصل برؤية خرائطية مختلفة و احتلال المشهد الأصلي بنص أجنبي و زرع شجرة تنتمي لمناخ مختلف في أرض مختلفة.
علما أن كل ترجمة تعتبر نص حوار ثقافي رمزي أي أنها تحاول بأشكال متعددة التعرف على الآخر و لغته، سواءا لأجل فهمه أو للتحاور معه، و علما كذلك أن فعل الترجمة يرتبط بفعل القراءة، حيث أن قراءة الآخر تقربنا أكثر من فهم أنفسنا و التعرف على هويتنا وذلك من خلال ما يمكن حفظه من الثقافة المقابلة عن طريق المرور من لغة غريبة إلى لغة الأم. أما بالنسبة لتجربة عبد اللطيف البطل فهو يقدم ترجماته الزجلية باعتباره قارئا لها في لغة ثانية، و بمعنى أوضح تنهض ذاتية المترجم على هوية مضاعفة إذ أن فعل الترجمة يتماهى بفعل القراءة حيث يتحول المترجم إلى القارئ الأول الإفتراضي لنصه. و لهذا فإن خصوصية الترجمة الزجلية في هذا السياق تكتسب قوتها، ليس فحسب من إتقان المترجم للكتابة بالفرنسية، بل قدرته على رسم أفق تلقيها. و هذا المسعى يتميز عن حالة الترجمة الغيرية التي يكون فيها القارئ المترجم شخص آخر، و ليس صاحب النص الأصلي.
على نحو غريب تتجه أنظار المترجمين إلى نصوص الثقافة العالمة و لغاتها الرسمية، فيما تبدي نوعا من النفور و النبذ تجاه نصوص الثقافة الشعبية و من بينها الزجل الذي ظل مهمشا، ينظر إليه كنص لا حياة له في لغة أخرى. إنها إحدى المغالطات الكبرى، و أحد الأوهام المتداولة. بيد أن الغرب تعرف على طبيعة المجتمعات الأخرى و على ثقافتها من خلال النص الترجمي. وحتى نبقى في دائرة الثقافة المغربية، و بالأخص مجال الثقافة الشعبية نلمس أن الترجمة كانت هي الجسر الذي جعل هذا الغرب يتعرف على سجلات الإبداع الشعبي من نصوص فرجوية و غناء شعبي و خطابات طقوسية و غيرها. لا يوجد نص إبداعي غير قابل للترجمة سواءا كان شعرا معربا أو عاميا. إن الترجمة فعل إبداعي لا ينحصر في نقل لغة إلى لغة و إنما هو دينامية تعبيرية لتجسيد الوجدان الفردي و الجماعي، الخيال و العاطفة، القيم الإنسانية الكبرى، الرغبات و الأحلام، الانسان في مختلف تجلياته. وهذه الأبعاد كلها تتجاوز مستوى أن تكون اللغة حاجزا لقولها.
من عمق هذا التصور تتأسس المغامرة الجمالية التي يرتادها عبد اللطيف البطل حين يشرع للنص الزجلي آفاقا لمعانقة المطلق الإنساني في تمظهراته اللغوية جاعلا من الترجمة جسرا لتلاقي الخاص بالعام، الفردي بالجماعي و المحلي بالكوني. ففي الإبداع، مهما تباينت الألسن و اللغات والهجات، فإن القيم الإنسانية تبقى ذات طابع مطلق، لا تحدها الخرائط و الجغرافيات. الحب كما الأمل و الحرية و الكرامة و عشق الجمال و الخير هي قيم كانت دوما القوى المحركة و الملهمة للإبداع و الفن. هذه القوى تنتمي إلى الإنسان و ليس الى الحدود الضيقة للجنسية و الإنتماء الإقليمي و اللغوي.