ريحانةُ الفراتِ وعروسـهُ الأزليّة ، ” كالينكوس ” كما كان اسمها الأول قبل الميلاد ، الرَّقة التي ماخامرَ شاطئَها يوماً شكٌّ بالتقاء ِكلِّ أشكالِ فجور الكون ونقائه .
المدينة المسالمة التي لم يخطرْ على بالِ طرقاتها أن تمرَّ بها ماريشالات العروض العسكريّة من كافّة الجنسيّات .
حتى ترهّلتْ وهادها بالحروبِ والبشاعةِ وفاضتْ بيوتاتها بنهداتِ الحزنِ التليد .
الرَّقةُ التي فقدتْ التواصلَ مع الحياة وباتَ بريدُ الموت ــ لسـنواتٍ عجافٍ
ــ لا يُفضي إلا إليها !
الرَّقّة السورية التي كانت منسـيّة حتى على أخبارِ النشرةِ الجويّة لأن فراتها لا يغيّرُ لونه على مرِّ الفصول ؛ وسماءها بقيتْ تحرسُ عبقَ الزيزفون وعطايا زبيدة وهارون ، وشمائل أهلها لم تتبدّل على مرِّ السنين .
فجأةً ..وفي سابقة زمنية صادمة ، دخلت التاريخ الحديث من أسوأ أبوابهِ ، بعدما كانت قد افتتحتْ تاريخاً ملوّناً بالحضارات والانفتاح على الترجمة والتوثيق والعمران في العصر الذهبي للخلافة العباسية ونسيجاً مجتمعياً متنوّعاً من كافة الطوائف والاثنيات والملل .
منذ احتضانها لأفواج الشّركس والأرمن الهاربين من المذابح وإقامتهم فيها بعد أن سكنتْ قلوبهم وارتاحتْ في سِلْمٍ أهليّ منقطعِ النظير ؛ مروراً باحتضانها للأشقاء اللبنانيين والعراقيين في سنيّ حروبهم الماضية ، والأهل السوريين القادمين من المدن غير الآمنة قبل سقوط الرقة .
وختاماً بتهريب الإيزيديات وإنقاذهنّ من عبوديةٍ وموتٍ محتّم عبر سلسلةٍ من المخاطرِ خسرَ فيها عددٌ من الأهالي أرواحَهم .
أصبحت الرقّة الآن .. أضحية التطرّف في بازارات الموت الأمميّة ، والاسم المحنّط في المؤتمرات التي تعجُّ بالمصافحاتِ الكيديّة وغرفِ الموت العربيّة ، و الكرة الذهبيّة في ملعب السياسة العالمي .
لا يزال أهلها يتساءلون بسِـلْمٍ حائر:
ماذا اقترفنا ليحرقنا ويأكلنا العرب والعجم ؟!
الرَّقة التي أُرسلتْ إليها جميع التنظيمات و الفصائل المشبوهة والمجرمة تقودها رايات وغرف تحكّم قاتلة ، وقصفَتها قوات التحالف حتى بعد موتها رغم أن ” ضرب الميت حرام” ، وجُربت على أرضها وأهلها كل أنواع الأسلحة المحرَّمة دولياًوالصوارخ والقنابل والألغام.
الألغام التي حصدتْ كثيراً من أرواح المدنيين الهاربين من جحيم ِداعش والحصار والقصف ، المدنيين الذين سلكوا طرق الموت لينجوَ منهم شهودٌ على جرائم ــ تم التعتيم عليها ــ تضاهي في بشاعتها ماجرى في هيروشيما اليابانية ودريسدن الألمانية .
لقد نُهبَت المدينة وخُرِّبتْ صروحها الأثريّة على مرأى ومسْمَع العالم ولا يزال النّهبُ مستمراً في ظلِّ عدمِ حصول الانتربول على إحصائية دقيقة بحجم المسروقات .
ولا نستغرب أن نجدَ ــ ونحن نتجوّل في متحفِ سينسيناتي في أوهايو الأمريكية أو بلتيمور أو متحف برلين أو أحد متاحف باريس ــ الرُّقُم الطينية الآشورية وكنوز وفسيفساء هرقلة وحمّام التركمان وقلعة جَعبر الأثرية والمتحف منذ أوائل العصر البدائي 7000 قبل الميلاد والعصر البرونزي والآشوري والعصور الوسطى ..
الرقة التي تُغتصب وتُنهب خيراتها ويتم احتلالها بذريعة الحماية ، تفوح من شوارعها رائحة الموت والجثث المتحللة تحت الأنقاض .
تفرّق أهلها في بيوتٍ ليستْ لهم ، يشربون مياهاً ليستْ فراتهم ، علّق أبناؤها أحلامَهم ومستقبلهم على شمّاعةِ الضّميرِ العالمي الميّت .
أما كُتّابها فقد قصّوا خيالاتهم بمقصّات الخيبة والخوف والخذلان .
يحاولون حلَّ أحجيةِ البقاء المستحيلة ، فتنزُّ من عيونهم غيماتُ حزنٍ على دارِ الثقافة التي أُحرقَت بدمٍ بارد وهي من أضخم دور الثقافة في سورية ومقصد المثقفين والكتّاب .
لاتزال المدينة تُغتصَب ويتمُّ التسوّل على رصيفها من قبل المنظّمات والجمعيّات الإنسانيّة المزعومة ؛ في محاولةٍ لتأصيلِ الدور الدولي الإغاثي ، والذي نعلم جميعاً أنه وسيلة مخزية في إذلال “الشعوب “وتوطينها واندماجها في واقع الاحتلال وتُستثنى فقط بعض الجهود الأهلية التي تسلكُ طريقاً تكافلياً ليس بغريب عن أخلاق أهلها .
ولكن أي ” شعب” وهو ينافسُ الماء في جودهِ ويشادي الغيمَ في سماحتِهِ ويصافحُ النخيل في رِفعتهِ حين يموت واقفاً؟!
الرقّيّون الأشجار يردّدون ما قاله الشاعر :
” وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى ــ وليلى لا تقرُّ له بذاكا
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ ــ تبيّن من بكى ممّن تباكى
فأمّا من بكى فيذوبُ وجداً ــ وينطقُ بالهوى من قد تباكى ”
وليلانا هي الرّقة المشنوقة بحبال هذا الحبّ الكاذب .
الرّقة التي لم تعي معنى التطرّف في ثقافتها ، ولم تفهمْ تفسيرَ ماحدثَ على أرضها وفي سمائها حتى اليوم ، تحوّلت إلى حدَثٍ يوميّ سيء السمعة وصحيفةٍ ملعونةٍ اشتركَ العالمُ في تقليبِ صفحاتها .
وبتنا نشاهد الممثل الأميركي جيمس سبيدر يضعها على اللائحة السوداء في تهريب المخدرات والسلاح في إحدى اللقطات ؛ بعدما كانت تصدّر الحُبّ والحَبّ والحمام والوئام لكل من يقصدُها ؛ وتتصدّرُ الأفلامَ التي تتحدّث عن الإرهاب .
والسؤال من هم الأبطال في هذا المشهد البشع ؟
إنّهم الحمائم المفترسة والذّئاب المعتدلة الذين سرقوا أماننا وحياتنا ودفء دورنا وحجورنا …
الرقَّة هي المدينة المظلومة بصورتها النمطيّة في مخيّلة السورييّن على أنها مدينة البادية البسيطة ؛ بينما في واقع الأمر كانت قدتجاوزت وتقدمت في فخامة وجمال عمرانها وبناها التحتية على كثير من المدن السورية ؛ لمرحلة أن المتأمل لشوارعها لا يلتقي نظره بفوضى الكابلات والمخالفات و…التي تتواجد في كثير من المدن السورية… بل والعربية .
المدينة المنسيّة أيها العالمُ الغافل والمتغافل …
الرّقة وعاصمة الرشيد وعبوره إلى ضفاف بدائع الصيف .
رقّةُ مهرجان الشِّـعر والرِّواية …! رقّةُ الزُّنودِ السُّـمرِ وفلُّ الحكاية ..!
رقّةُ الزيزفون وسِـحرُ السُّكون ..!
رقَّةُ الأوكاليبتوس والصفصاف وقزح الأطياف نداوة الحبِّ ووشوشة الضفاف ..
رقّةُ أهل الله المتخفّين برداء البساطة ..
رقّةُ الخير ـ أيّها السوريون ـ قمحكم في سنابل السنوات الماضية …
خبزُ البلاد وماؤها …
ترى هل ستبقى مجهولة المآلات ؟!
تترنّح على تخومها أسوأ السيناريوهات !
وهل سأبقى :
ســادرة في قلقي كدروب مدينتي إلى غدها..
مخضرّة كأمسـها ..
يابسة كأجساد موتاها..
منسـيّة كوجودها ، منهمرة كجودها ..
نافقة كحياتها ..
ذاوية كـعذوق نخلها ..
حزينة كأضواء جسـورها
متفرّقة كأشـلاء ذكرياتي هناك ..
مجتمعة كجراحاتها ..
مقفرة كقلوب المارقين في شوارعها ..
حرّة كصفير بيوتها ..
ضائعة كعناوين فرحها ..
صاخبة كآلات موتها..
عاتمة كسـحاب سمائها ..
مبحوحة كقصب فراتها ..
ناحلة كدموع الأمهات ..واسعة كبكاء رجالها ..
كثيفة كحرائقها ، يذروني رماد بيوتها ..
مجعّدة كوجوه أزقتها ..
شـاهدة كرشــيد بابها ..
طائشـة كصحف تاريخها
دافئة كمفاتيح أقفالها …
عاتية كرياح شوقها ..
وادعة كعيون أفقها ..
هادئة ثابتة كيقين أوليائها ..
هائمة كحنين جذوري..
خرسـاء كضمير العالم ..؟!