لم تكن المرأة على ضفاف نهر الفرات وخاصة في الريف الرَّقي المترامي الأطراف
بمنأى عن مسارات التطور التي تواترت وشملت كل مفاصل الحياة كما هو الحال في شتى ربوع الريف السوري وعلى امتداد جغرافيا الوطن،
فقد كانت المرأة الفراتية سبَّاقةً في الالتحاق بمناهل التعليم الأساسي التي أصبحت بكافة مستوياتها تتوهج بسناها من أقصى الريف إلى أقصاه
واستمرت المرأة في متابعة تحصيلها المتوسط والعالي بعد أن أصبحت الجامعات متاحة وفي متناول الالتحاق،
فأنجب الريف الرَّقي عددًا كثيرًا من الجامعيات ومن كافة الاختصاصات ولاسيما في قطاع التعليم ،
وكنتيجة للخدمات التي عمَّت أرجاء الريف ورغبة بناته في تحقيق قفزات نوعية في مسارات التطور صار المرء لم يعد يمِّـيز بين الريف والمدينة في ثقافة الفتيات وأزيائهن وحتى في حِليِّهن وزينتهن،
وقد كان لبناء سد الفرات وإقامة المشاريع الزراعية وتطويرها كأحد مشاريع التنمية العملاقة في المنطقة
دور كبير جدًا في انفتاح المرأة الفراتية واختلاطها بشرائح مجتمعية جديدة قادمة من محافظات أخرى ولاسيما من اللاذقية وحمص وطرطوس وحماة دَمَجَتْها في آفاق جديدة قَدَحَتْ فيها زناد الإقدام بجرأة للانخراط في ميادين العمل التي كانت حكرًا على الرجال ، ومع ذلك ظلت المرأة الرَّقية في الريف محافظةً على مفرداتٍ أصبحت في مخزون التراث والثقافة الشعبية ضمن إطارات العمل الجمعي التعاوني الذي عاشته المنطقة بعفوية وبساطة لتدلل على عمق اللُّحمة في النسيج المجتمعي وانفطاره على سريرة العمل الجماعي الذي يحمل ما يحمل من معاني التآلف والتَّواد
ومن هذه المفردات التي أخذت طابع العمل الجمعي وأصبحت تراثاً يتذوق الرَّقيون ذكراه في أحاديث السمر وفاكهات الشتاء ،
مفرداتٌ لها مذاقٌ خاص تقشبها تراتيل الغرام وقصص العشق التي كثيرًا ماتفضي إلى زيجات وتنتهي بِأُسَرٍ جديدة تمد نسغ الحياة، ولكل مفردة وقتها، وطقوسها، ومعانيها، و أهازيجها، ومنها الورّادات ـ الحلّابات ـ الحاصودات ـ اللاقوطات ـ الحطّابات)
الورَّادات (جمع ورَّادة) :
كان نهر الفرات هو المنهل الوحيد لمياه الشرب والغسيل والطهي وتفرعت عنه قنوات الري في ريف المحافظة
بعد قيام مشروعي الرائد والهشم ومشاريع استصلاح الأراضي فتغلغلت الأقنية في جسد المحافظة كشرايين تنبض بالحياة بكافة مناحيها فما أن تضحى الشمس وتكفكف الفتيات أعمال الصباح من عَجْنٍ وخَبْزٍ وغيرها
يبدَأْنَ يتواصَيْن ويتنادَيْن لشدَّ (الحُمُول) أو (الخَطْرَات) والذهاب لإحضار الماء من مسافات تكاد تكون بعيدة أحيانا و(الحِمْل) أو (الخَطْرَة) هو إناءين اسطوانيي الشكل من صفيح بقطر 30 إلى 40 سم وبطول 75 إلى 100سم تردفهما المرأة على ظهرِ حمارٍ تمتطيه أحيانًا تذهب لتملؤهما من النهر أو من قناة الري وقد تقتضي الحاجة لإحضار (خَطْرة) أخرى أو أكثر وقت العصر
فضروري أن لا يأتي المساء إلا وقد ملأت برميلًا أو أكثر إذ يعاب على الفتاة أن تنام وبراميل الماء في بيت أهلها فارغة ،
تجتمع الورَّادات فينطلقن، ترافقهن بعض كلاب القرية فتسير القافلة المكونة من عدد قد يصل إلى عشرين فتاة في انسياب هادئ بالمداعبات والعِتابات وبعض الوشوشات لرسائل شفهية حمَّلها حبيب مُدْنَفٌ عبر وسيط إلى حبيبته،
وأحيانًا يتصنَّعُ بعض الشباب مرورًا عابرًا على عجل لرمي نظرة عن بُعْدٍ أو ليحظى بابتسامة تاق لرؤيتها،
وما إن تصل الفتيات إلى الشاطئ يَخُضْنَ في الماء حيث ترفع كل منهن ثيابها لتشبك أطرافها في حزام التفَّ حول خاصرتها فتنكشفُ سوقٌ يلهثْنَ بياضًا مقشَّبًا بوشم أزرق منقوش بعناية فائقة،
وقد يتجرأ بعضهن إلى عمق النهر لتغطَّ بكامل جسدها فيعبث الماء بخصلات شعرها ويفلل جدائلها فما إن تنهضَ حورية النهر هذه تتواتر دوائر أمواج هادئة كانت تداعب جسدها وقد ارتسمت كل تفاصيله الملتصقة بتنورة الكودلي القطنية الرقيقة ،
وبعد ملء الخَطْرات والاستجمام قليلا تعود القافلة بخطًا متثاقلة لتصل تخوم القرية على حافة المغيب.
ومن صور التعاون بين الورَّادات أن يتبرعن بخَطْرات ماء للبيوت التي لم تطق عناء جلب الماء من النهر لعجز أو لمرض أو لأن الله لم يرزقهم بنتًا للقيام بهذا العمل .
الحلَّابات (جمع حلَّابة):
ليس هناك أجمل من دفء الرّبيع الذي ينبعث إلى أعماق الأرض، ليُزيل عنها برد الشّتاء الطّويل والقاسي،
تنشر الشّمس أشعّتها على استحياءٍ لتطلّ من بين غيوم السّماء البيضاء الحنونة التي إن أرادت أن تُمطر ترسل رذاذها النّاعم الحنون فالخير يعم وتتجدد الحياة ويشرع النهار يطول تدريجيًّا فتبدأ الأغنام بالولادة ويكثر الثغاء والنباح وتعلو أهازيج الرعاة وبحبحة ناياتهم ويهمُّ الناس التنقل بقطعانهم إلى البريَّة الواسعة الخضراء الغنية بالكلأ فحيث كَثُرَ الزرعُ ودرَّ الضرعُ مع طول النهار
لابدَّ من القيام بحَلْبـَتـَيـْن في اليوم، الأولى وقت الضحى والثانية وقت العصر
حيث تتجمع الفتيات وقد تزيَّن وتجمَّلْنِ وارتَدَيْنَ ملابس تليق بطبيعة الفصل وجماله فحملن بأيديهن الجِرار أو العلب الخشبية أو السطول أو الصفائح (التنكة) واتجهن جماعة إلى حيث مرتع القطيع وكما هي العادة يقوم الرعاة بتجميع الأغنام وربطهن بطريقة فنية بواسطة حبل طويل يسمى (الشباق) لتنضبط الشاة فيسهل على الفتاة حَلْبها وما إن تقترب الفتيات من القطيع
تبدأ الكلابُ النباحَ وتكثر صيحات الرعاة وهم عادة من الشباب الذين ينتظرون قدوم الحلّابات بفارغ الصبر لتبادل الابتسامات وتجاذب أطراف الأحاديث ورمي الكلمات الملغوزة بعبق العشق والإعجاب وعادة ما يتقصَّدُ بعض الشباب إفلات نعجةٍ لتضطرَ الفتاة دعوته لمساعدتها في الإمساك بها لتكون فرصته للتحدث إليها وهي تَحْلِبُ النعجة ليفصح لها عن مكنون إعجابه
وما إن تنتهي عملية الحَلْب يضعن الجِرار على رؤوسهن بطريقة فنية و قد أسدلن الجدائل على المتون أوالصدور فنهدت الكواعب الحبيسة وفاض البياض عن النحورلا سيما إذا كانت حديثة عهد في تثبيت الجَرَّة على الرأس فلابد أن تمسكها بكلتا يديها المرفوعتين إلى أعلى فتتلكأ وهي تتحرى التحاق حبيبها وقد دنت الشمس إلى الغروب تتثاقل الخُطا لتقصي بنفسها عن رَكْبِ زميلاتها وبعلم بعضهن ليخرج الحبيب من بين أحد المنعطفات أومن خلف تلة فيأخذا وقفة عاجلة محمومة بالشوق والعتاب والخوف من التأخر عن بقية الحلابات
فتُسَوِّل له نفسه وقد وقف أمام نحر يتدفق بياضًا وكاعبين ضيَّق عليهما الحزام أن يقطف قُبلة من مبسم بكري ارتسم بالنقاء وخمرية بعض ورود الربيع ،
لكن الحيرة تفلتت بين الجرة المركَّدة على الهامة ووردة ستسرق من ثغرٍ تاق الحبيب لقطفها في فرصة قد لا تتكررثانية فإن تجرأ وفعلها انهالت عليه تمتمات اللوم المخضلة بالرضى ليمضي مسرورًا مبتهجًا،
وهي كذلك تلملم شتات فرحتها فتخفَّ الخطا لتلحق بهن قبل أن يدركن أطراف القرية
الحاصودات (جمع حاصودة):
ما إن تبدأ شمس الصيف بإعطاء لونها الذهبي لسنابل القمح المُحملة بالخير والمائلة بتواضع لأنها لم تعد قادرة على حبس خيرها ، مناديةً الأيادي السمراء لعناق المناجل
حتى يبدأ الفلاحون بالتحضير لموسم الحصاد في طقوس عرس محملة بالتعب واللذة عرس يؤمهُ الناس دون دعوة،
لمدِّ يَِدِ الفزعة، عرسٌ يعكس قيمة التعاون والتضامن والتلاحم بين الفلاحين إيمانًا بأنها هي العروة الوثقى في هذه الحياة.
لوحة فنية ومشهد رائع يحمل عبق الطبيعة وعناق المنجل مع سنابل القمح الصفراء يتحرك بخفة بين اليدين اللتين تجمعان الخير من الأرض الطاهرة تداعبها فيه خيوط الشمس وتحتويها تلك التربة، وذلك العرق المتصبب تمسحه تلك الأيدي التي تشققت والسنابل التي تناثرت على الرأس والجبين هوموسم ينخرط فيه الجميع،
رجالا ونساء وشيوخا،
وأحيانا ينخرط فيه حتى الأطفال، فالوقت ضيِّقٌ ومحدود قبل أن يقيس الزرع أي تصبح سوقه يابسة خالية من الرطوبة فيضطر الفلاحون للغدوِّ المبكر مع الندى قبل أن يدهمهم الشَّوْبُ ،
وحتى ربَّةُ المنزل تستنفر من أجل التوفيق بين أشغال البيت ومتطلبات العمل في الحقل فتتأخر قليلا عن الحواصيد لتنتهي من أعمال خَضِّ الشكوة وفرز الزبدة عن اللبن لتلحق بهم وقد أعدَّت لهم وجبة الضحى وتسمى (القراطة) وهي عادة من سليق الحنطة المطبوخ باللبن وكذلك تحضِّر لهم قِرْبَةً من لبن طازج مصفى (شنينة أو جريعة) مازال حديث عهد بالشكوة (يامتعة العبِّ للحاصود من لبنٍ في ظل كدسٍ بيومٍ ضَحْوُهُ حام ) ويوم الحصاد يوم طويل قائظ من بزوغ الشمس إلى غيابها وكما يقال
(من طلعتها لغيبتها ..أي الشمس)
فمع هذا الاستنفار وهذا اليوم الطويل المليء بالهموم والمتاعب تنهض الهمم وتشتد العزيمة بالأهازيج التي تبعث الحماس وتجدد النشاط بين الحواصيد وقد تركوا خلفهم أرتالا من (الشُّمول ) والشَّمل هو مقدار حَضْنَة من سوق القمح المحملة بالسنابل ليأتي بعدهم (المُقَـمِّر ) وهو عادة ممن هم في سن الصبا ليقوم بجمع الشمول ليكوِّن منها الكدس فتجد عند رأس كل سهم كدسًا أو عدة أكداس منسقة على مسار واحد ليسهل على الرواجيد (جمع راجود) جمعها وهم مجموعة من الشبان يقومون باستخدام المذاري (جمع مذراة) لتعبئة الكدوس في العربة التي يجرها حصان عادة ونقلها إلى مقر البيادر وهي أرض صلبة على أطراف القرية لكل فلاح فيها موطىء حصان له معروف على مر السنين.
وبذلك يكون الفلاح اطمأن إلى حد ما على موسمه لتبدأ بعد ذلك مرحلة الدراس والتذرية والسنط والغربلة وهنا وقبل أن يضع حبوبه في أكياس (الشوالات) يخزِّن بعضها لمونة الشتاء من برغل وطحين والباقي يسوِّقه ليفي به حاجات المنزل الأخرى ،لا ينسى الفلاح الأطفال الذين يتواترون إلى (الصُّبَّة)وهي كثيب من القمح ممدد على شكل هلال ليضع في حجور ثيابهم الرثة(الشِّرِيَّة) وهي ثلاث إلى أربع حفنات من من القمح ليستبدلونها ببعض قطع الحلوى من البائع المتجول عندما يحضر.
اللاقوطات ( جمع لاقوطة):
لا أتفق مع من يطلقون على عملية جمع محصول القطن اسم قطاف القطن أو جني القطن فثمرة القطن لاتـُقْطف قَطْفًا أي لا تُـنْـتَـزَع انْتِزَاعًا وإنما تـُلْتَقط الـتِقـاطًا إذ يقوم الإنسان بالتقاط عذق القطن بأطراف أصابعه دون تعب من جوزته التي تفتحت فتدلى القطن من فصوصها ويبقى كعب الجوزة معلق في الشجيرة
فاسم الفاعل لاقط أو لاقطة والجمع لاقطات أو حسب اللهجة لاقوطات (يلفظ حرف القاف في المنطقة مثل الجيم المصرية)
إن أهم ما يميز هذا الموسم هو أجواء المحبة والتعاون السائدة بين الأُسَر وكذلك المنافسة والجدية فتأتي الورشة والمعروفة باسم( الشَّدَّة) مع خيوط الفجر الأولى إلى الحقول وتتألف من 15ـ 20 عاملة من الأُسَر المتعاونة ،
وترتدي اللاقوطة ثوبًا شعبيًا فضفاضًا يقيها من تعلُّق بعض النباتات الشائكة أو اللاصقة وكذلك لوضع أكبر قدر من القطن في حجرها لتنقله إلى الشلَّ حيث يقوم الدَّحَايُ بالضغط عليه بأقدامه بقوة والدَّحاي من الشباب الأقوياء يتولى عملية رصِّ القطن حتى يمتلىْ الشلُّ ثم يقوم بتخييطه وتجهيزه لنقله إلى القبَّان ،
لموسم القطن معان ودلالات وأدبيات في الحرص على جني المحصول بشكل نظيف وعدم التهاون بالعمل فجميع العاملات في الشَّدة ينظرن بازدراء إلى كل من تتخلف أثناء العمل عن رفيقاتها حيث يحرصن على مضاعفة الجهود وعدم التقصير .
الوضع هنا مختلف عن الحصاد فالحصاد يحتاج إلى نشاط أكثر وسرعة في الزحف باتجاه واحدٍ في حين أن التقاط القطن تكون الحركة فيه بطيئة والعاملات قريبات من بعضهن فتجلس العاملة قرب شجيرات القطن الكثيفة التي قد يصل ارتفاعها إلى أكثر من متر مع كثافة في جوزات القطن المتفتحة من الأرض إلى الأعلى فتلتقط من أمامها ومن يمينها ومن يسارها ففي التقارب بين العاملات وبطء الزحف تتجاذب النسوة أطراف أحاديث شائقة عن قضايا تهمُّ الأسرة والمجتمع مع عرض لآخر شؤون القرية،
ولا يخلو الأمر من سِيَرِ الغرام التي تتجدد مع قوة موسم القطن وارتفاع غلَّته إذ كثيرًا ما تُـطلق الوعود وتُعقد الأيمان بأنه مع قدوم فيش القطن (الفاتورة) من المصرف الزراعي
ستتم خطوبة أو يُعْقد قران ، وعادة ما تتم اللقطة الأولى في شهر أيلول تليها ثانية أو ثالثة ثم اللقطة الأخيرة (العفارة) قبيل أو عند الضريبة (الصبرة) وهي ليلة يستيقظ الناس فيها على موجة برد قوية تهتري فيها كل المزروعات الصيفية ومنها القطن حيث يتم جمع جوزات القطن التي لم تتفتح لنقلها إلى البيوت وتيبيسها لتتسامر الفتيات عليها في أواخر الخريف وبدايات الشتاء لنزع عذوق القطن منها على ضوء مصباح كاز خافت إما فانوسًا أو بلورة نمرة 3
الحطابات (جمع حطابة):
ما إن اصفرت أوراق الأشجاروشحبت الأرض واخْتَفتِ الزُّرْقَة مِنَ السَّماءِ وبدأت الريح تتقلب حاملة رسائل تنذربقدوم البرد يكون الخريف قد ارتحل متثاقل الخطا والشتاء صار يطرق الأبواب فتصبح الأكف تتحس الشهوة إلى فاكهة الشتاء ،
في تلك البيئة ذات الشتاءات القاسية لابد من العودة إلى الزُّور وهو التسمية المحلية للأراضي المزروعة على ضفتي نهرالفرات لاحتطاب الطرفا وشجيرات القطن الجرداء فالحطب يكاد يكون المادة الوحيدة للطهي والتدفئة لإحياء التعاليل (السهرات) الطويلة المعطَّرة بعبق الهيل والقهوة المُرَّة وسط سُحب من دخان الغازي (التتن) عََلتْ أجواء الغرفة متزاحمة نحو (الطاقة) منفذها الوحيد إلى الفضاء، وصليل كاسات الشاي الثقيل والسوالف والأحاجي والألغاز وألعاب الورق ولعبة الصينية وغيرها ،
فتبدأ الفتيات والنساء يتبارين في الاحتطاب إما باقتلاع الشجيرة من جذورها أو باقتطاعها بقُدُّوم (جَدُّوم) تحمله بعضهن يذهبن جماعات فيجمعن الحطب على شكل حزم ثم يقمن بترتيب الحزم في حزمة كبيرة تسمى (الصرقل)
تلفها بحبل طويل لتساعدها زميلاتها في تحميله على ظهر الحمار والصرقل خفيف الوزن كون الحطب أصبح جافًّا لكنه يأخذ حجمًا كبيرًا شبه أسطواني قد يتجاوز قطره المتر وطوله المترين ويسير به الحمار وخلفه المرأة تمسك به و تتابع توازنه كي لا يسقط، وقد تضطر المرأة لحمل حزمة كبيرة على ظهرها تربطها بحبل وتسير بها نحو القرية ولا أبالغ إن قلت إن كبر حجم الحزمة لا يجعلك ترى إلا كومة حطب تسير دون أن ترى حاملها وتحرص المرأة على إحضار الحطب من الأشجار ذات السوق الغليظة لتدوم الجمرية أطول، وللحطب في البيت رمزية كبيرة
إذ أن كوم الحطب بجوار المنزل دلالة على على أن فتاة هذا البيت نشيطة (اِكْحِيلَة) تصلحُ أن تكون ربَّة منزل ومتمكنة من تأمين احتياجاته ومنها الحطب فعندما يتقدم أحد لخطبتها فيذكرون محاسنها يُنظَر إلى حطب أهلها،
وهناك أمور أخرى تزكِّي الفتاة منها اتساع الرغيف الذي تخبزه على الصاج فيذكر من محاسنها (هذا وِسْع رغيفها )
مع الإشارة إلى ذلك بكلتا اليدين وكثيرا ما تذهب أمُّ الخاطب في الصباح الباكر قبل طلوع الفجر في ليل شتوي بارد لترى بأمِّ عينها تلك الفتاة وهي تخبز لتختبر براعتها في ذلك إذ إن الانتهاء من الخَبْز يجب أن يكون مع طلوع الشمس،
واحتياطًا من هطول المطر ليلا تقوم النسوة بتخزين كميات كبيرة من الحطب داخل ( الياخور) وهو غرفة فيها تَـفِّـيَّة الخبز (موقد الخبز) لتضمن سلامته من الرطوبة في الصباح الباكر،
والاحتطاب أمر لا مناص منه مهما كانت ظروف المرأة وقد سُجلت حالات ولادة لبعض النساء وهنَّ في الحَطَبِ
حتى إن بعض النساء المتقدمات في السنِّ يلمزن كنائنهن المتكاسلات اليوم بعبارة : كنَّا نَجِيب (نَلدُ) ونحن في الحطب.
فهاهي المرأة الرقية الفراتية قصة كفاح طويل كانت وما زالت وستبقى جذوة وهَّاجة تبدد الظلام لترسم الضياء حبًّا ينبض بالثبات والتجدد على امتداد مساحة الوطن سورية الحبيبة رغم ظلم الظلاميين وجهل الحاقدين.