حارة الأحباش

حكايتنا اليوم هي عن حارة قديمة معروفة لدى الكثير من اهل القدس، كما هي معروفة بسبب ما يحدث فيها من خلافات وصراعات مع حارة الاقباط حول كنيسة هنا وحجر هناك .

 تعتبر حارة الاحباش معلما مقدسي بإمتياز ، وهنا نسترجع بالذاكرة حكاية الملك أصحمة النجاشي

الذي أرسل  له رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم  الرسالة التي نصها:

((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الملك القدوس، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخته، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى )

النجاشي أصحمة بن أبجر (توفى سنة 630م) كان أحد ملوك الحبشة. استقبل الصحابة المهاجرين إليه، واجتمعوا به في الفترة ما بين 610 ـ 629 م ويسمي (أرمها). وهو الوحيد الذي صلى عليه رسول الإسلام صلاة الغائب لما علم بوفاته

قال عنه الرسول محمد إنه ((ملك لا يظلم عنده أحد))”

تولى الحكم وهو ابن 9 سنين بعد موت عمه بصاعقة، وبعد سنوات من حكمه، انتشر عدله، وذهبت سيرته الطيبة إلى كل مكان. والان عودة على حارة الاحباش في البلدة القديمة واهم معالمها ديرالحبش وهو دير أثري للأحباش الأرثوذكس يقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارة النصارى، حيث يلاصق كنيسة القيامة، فوق مغارة الحليب. وهو آخر ما تبقى لطائفة الأحباش الأرثوذكس في البلدة القديمة، ويعتبر الأقباط أنه جزء من دير السلطان الذي تعود ملكيته لهم ، وفد الأحباش على القدس منذ دخول المسيحية إلى الحبشة في القرن الرابع الميلادي ولم يبق لهم سوى دير الحبش وهو يلتصق بكنيسة القيامة فوق مغارة الصليب وكنيسة الحبش وتقع خارج أسوار المدينة القديمة

وجاء في صحيفة العلم اﻻثيوبية   للكاتب ايوب قدي قائلاً :

تراثنا التاريخي الأثري بدير السلطان بالقدس إثيوبي

تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية من أقدم الطوائف التي سكنت في القدس وقطنت فيها وكانت مقيمة بشكل مستقر ودائم حول الأماكن المقدسة بدليل ما جاء في وثيقة ” العهدة العمرية” وهي الوثيقة التاريخية الكبرى وأعطى إياها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” لنصارى الحبشة في بيت المقدس… ومن هذا النص يتبين بوضوح وجلاء أن الاحباش كانوا يسكنون بشكل عادى ودائم في القدس قبل الفتح الإسلامي وهذا، بعكس الطوائف الأخرى التي كانت تأتي للزيارة فقط

وليس هذا فحسب كما أن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية كانت من أغنى الطوائف تمتلك الأراضي المقدسة وكان لها مواقع ثابتة في الكنائس الرئيسية مثل كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة العذراء مريم وغيرها من الكنائس تحيط بكنيسة القيامة بالإضافة إلى دير السلطان وما اشتمل عليه من كنائس وأماكن عبادة،والدليل علي ذلك تحتفظ الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية بالوثائق الرسمية والمستندات والخطابات و الفرمانات السلطانية التي أصدرها خلفاء بني عثمان مما يؤيد بشكل قاطع ما لكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية من الحقوق والممتلكات،حسب ما صدرت كتيبة حقوق الكنيسة الحبشية الأرثوذكسية في الأماكن المقدسة

اما اللغة المستخدمة حتى في اللوحات في الدير فهي للغة الامهرية حيث تعنى

(الأمهرية أَمَرِنّْيَ) أو الأمحرية لغة إثيوبيا الرسمية، وهي لغة سامية تتبع المجموعة الجنوبية الغربية ويتحدث بها سكان إثيوبيا، لكن أثرت عليها لغات كوشية كثيرا.

اللغة الأمهرية هي ثاني أكثر اللغات السامية انتشاراً بعد العربية، وهي لغة العمل الرسمية في إثيوبيا، وفي عدة ولايات ضمن النظام الفيدرالي الإثيوبي ؛ هي لغة الجيش الإثيوبي والكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية التوحيدية، وهي لغة لحوالي2.7 مليون مهاجر خارج إثيوبيا. اللغة الامهرية لها نظام كتابة خاص بها وهو الفِدَل الأمهري الذي يتحدر من الأبوغيدا الجعزي

تعود كتابة الامهرية الى القرن الأول قبل الميلاد وهي لغة مشتقة من لغة الجييز التي عرفتها حضارة الأكسوميت القديمة في 250 ق م

تسمى الحروف الامهرية بالفيلد ، وهي 34 حرف ، فيه 7 حروف متحركة . وتتكون الجملة في الأمهرية من : إسم + مفعول به + فاعل

وتختلف اللغة الأمهرية عن اللغات السامية الأخرى في نظام كتابتها فهي تستخدم النظام المقطعي الذي يتكون من أكثر من مائتي رمز يرمز كل منها لعنصر صامتي وعنصر صائتي على الأقل ، فالرمز يقابل مقطعاً عادة في اللغة . واللغة الأمهرية تكتب من اليسار إلى اليمين وذلك على العكس من اللغات السامية الأخرى ( العربية والعبرية والسريانية

تحتوي الامهرية على عديد الكلمات العربية ويعود ذلك للقدوم قبيلة حبشبت من اليمن  قبل مئتين سنة من الميلاد الى أرض أثيوبيا وقدوم الاحباش أثر كثيرا على الحضارة الاثيوبية وساهم في خلق الأمهرية هذا المزيج الاسوي الافريقي العريق

تقول دائرة المعارف البريطانية إن هناك العديد من القوميات في إثيوبيا، مشيرة إلى أن التمايز اللغوي يعد من أبرز أسباب الخلافات في البلاد، حيث يوجد في هذا البلد نحو 100 لغة يمكن تقسيمها إلى 4 مجموعات لغوية رئيسية هي السامية والكوشية والأومية وجميعها من الأسرة الآفرو آسيوية، كما أن هناك مجموعة رابعة تنتمي إلى النيلية وهي جزء من أسرة النيل الصحراء اللغوية

كنيسة الحبش

تفع ظاهر المدينة خارج السور، والى الشمال الغربي من المسكوبية . انها انيقة الهندسة محكمة البناء، مستديرة الشكل ،يعلوها قبة كبيرة مصفحة بالرصاص

وبالقرب من شارع الأنبياء، في القدس الغربية، تظهر في الأفق قبة كبيرة ملفتة للنظر، تستقر على كنيسة دائرية، هي الكنيسة الإثيوبية، تحيط بها مساكن للرهبان والراهبات، وجميع هذه المباني التي شيدت ما بين عامي 1874-1901م، يحدها سور، وأعطت الشارع اللطيف المؤدي إليها اسم شارع إثيوبي سلالة ملكة سبأ

 وتستقطب الكنيسة الإثيوبية السياح والحجاج،  وهي تؤشر على الوجود التاريخي للجالية الإثيوبية في القدس وفلسطين، والذي لا يقتصر فقط على وجودهم في دير السلطان فوق كنيسة القيامة، المختلف عليه مع الأقباط، ولاحقا تطور هذا الوجود ليشمل كنائس في مناطق أخرى مثل بيت لحم وأريحا

يعتقد الإثيوبيون المسيحيون، بانهم ينحدرون من سلالة ملكة سبأ التي يعتقدون بانها احدى ملكاتهم، والملك سليمان، وان ارتباطهم بالأرض المقدسة، قديم جدا

يعلو الباب الرئيس للكنيسة نقش بلغة (جيز) ينص: “انتصر الأسد من سبط يهوذا” وهو تخليد لإمبراطور إثيوبيا منليك الثاني والتاريخ 1889م

في باحة الكنيسة، ينتشر رجال الدين بثيابهم السوداء، والنساء بأرديتهن البيضاء، ويمكن رؤية امرأة تسجد بخشوع، على الطريقة الاسلامية أمام أحد جدران الكنيسة

ويستلزم الدخول إلى الكنيسة، خلع الحذاء، وهو كما يقول أحد الرهبان، من العادات الإثيوبية، وداخل الكنيسة، يمكن رؤية المؤمنين وهم يصلون وقوفا أو سُجدا

في وسط الكنيسة يقع ما يسمى قدس الأقداس الذي يدخله فقط الكهنة ويوجد فيه مجسم لتابوت العهد، وأعلاه، يوجد نقش باللغة العربية، يشير إلى البدء في بناء هذه الكنيسة على اسم السيدة مريم العذراء، على يد ملك ملوك الحبش يوحنا (يوهانس) سنة 1874، وبلغ ما صرف عليها 4000 ليرة، وبعد وفاته تم عمارتها من قبل ملك ملوك الحبش منليك الثاني عام 1885 وصرف عليها أيضا 4000 ليره

وسط صخب القدس، تعتبر الكنيسة الإثيوبية جزيرة ساحرة من الهدوء، شعار مجتمعها الأسد، تأكيدا لانحدار المسيحيين الإثيوبيين من ملكة سبأ والملك سليمان، الذي قدم لها لافتة تصور أسد يهوذا عندما زارت القدس، وفقا لسفر الملوك

تتميز الكنيسة بالأيقونات والجداريات لقديسي الكنيسة، ولمريم العذراء والطفل يسوع في افريقيا، بعض الألوان بارزة بشكل لافت مثل الوردي والأزرق

عادات وتواريخ

تعتبر الكنيسة الإثيوبية، إحدى الكنائس الشرقية غير الخلقيدونية، وتتميز بمحافظتها على بعض العادات التي يعتقد بانها من تأثير اليهودية، ويعتقد بعض الباحثين، ان هذا التأثر سببه، ان المسيحية دخلت إثيوبيا مباشرة من فلسطين. ولإيمان ابناء الكنيسة وعددهم يصل إلى نحو 50 مليونا منتشرين في مختلف دول العالم، بانهم من نسل ملكة سبأ والملك سليمان. في تقليد الكنيسة الإثيوبية ان ملكة سبأ عادت حاملا من القدس وأن ابنها هو منليك الأول، أوّل امبراطور أسطوري لإثيوبياويشعر أتباع هذه الكنيسة بالاعتزاز، لوجودهم في الأرض المقدسة، رغم التحولات الكبيرة التي شهدتها البلاد، خلال الاف الاعوام، ولتعرضهم للملاحقة في بعض الحقب التاريخية، حتى في بلادهم

تتوفر بعض المدونات التاريخية عن الوجود الإثيوبي في القدس، فبعد الفتح الاسلامي عام 636م، اصدر الخليفة عمر بن الخطاب فرمانا، حدد فيه حقوق المسيحيين في القدس من بينها حقوق الكنيسة الإثيوبية

الحجاج في القرون الوسطى كتبوا عن الوجود الإثيوبي في القدس، مثل الراهب الدومينيكاني بوركاردوس دي مونتي سيون الذي كتب سنة 1283، عن عادات الإثيوبيين وتقواهم. وفي عام 1347، كتب  الراهب الفرنسيسكاني نيكولو دا بوجيبونسي، عن وجود الإثيوبيين في كنيسة صغيرة على اسم السيدة مريم في كنيسة القيامة ودير الجنة

كانت الكنيسة الإثيوبية، تابعة للكنيسة القبطية في مصر، ولكنها استقلت عنها عام 1948، بعد عدة عقود من الجهود، خاصة من جانب الامبراطور هيلاسيلاسي

للكنيسة الإثيوبية مدخلان، واحد للرجال والاخر للنساء، ومن العادات التي تمارسها هذه الكنيسة، هو ختان الذكور بعد ثمانية أيام، ويوم السبت هو اليوم المقدس الثاني، ولا يقل أهمية عن يوم الاحد، وتحرص الكنيسة على تقليد الرقص والعزف على الطبول الافريقية الكبيرة في طقوس القداديس الإثيوبية، ويعبده البعض جزئيا إلى ما ذكره العهد القديم عن رقص الملك داود امام تابوت العهد

رغم شرقية الكنيسة الإثيوبية، ووجودها في مجتمع شرقي، لكن أعضاءها، لا ينخرطون كثيرا في المجتمع المحلي، ويتحدثون فيما بينهم بالأمهرية، وكثير من الرهبان لا يجيدون العربية ولا العبرية، بل ولا أي لغة أخرى

يعيش الرهبان، حياة بسيطة ومنظمة للغاية. يتناولون وجبات طعام مشتركة وحياتهم كلها تدور حول خدمات الصلاة والأعياد

يشارك الرهبان في خدمات الصلاة التي تعقد مرتين يوميا بين الساعة الرابعة والسادسة صباحا، وبين الرابعة والخامسة مساء، وتشمل الخدمات فترات طويلة من الوقوف، ويستخدم الرهبان عصي طويلة للمساعدة على الوقوف، وهي تشبه التي تُستخدم من قبل الرعاة في إثيوبيا، وهم يرعون قطعانهم

يتميز أتباع الكنيسة الإثيوبية بما يقدمونه في الأعياد مثل عيد الفصح في القدس، وعيد الميلاد في بيت لحم، حيث يستخدمون الطبول الافريقية والرقص في هذه الاحتفالات، وداخل الكنيسة الإثيوبية يمكن رؤية هذه الطبول على المقاعد تنتظر استخدامها

الحاج الالماني برنهارد فون بريدينباج وصف احتفالات الفصح عام 1502، وكيف يتجمع الرجال والنساء في حلقات يرقصون ويصفقون، ويغنون حتى الفجر

خارج خدمات الصلوات العامة، ينقطع الرهبان والراهبات إلى الممارسات الروحية الخاصة، فالصلوات الخاصة جزء مهم جدا من الحياة الرهبانية في الكنيسة الإثيوبية، في حين يفضل البعض الاخر قضاء وقتهم في الدراسة. نعرف عن واحد أو اثنين من الرهبان اللذين انسحبا من عالم الجماعة وانقطعا إلى التنسك الفردي. الأكثر شهرة راهب توفي في أوائل ثمانينات القرن العشرين، يقال بانه لم يتكلم لمدة 30 سنة، وإذا طلب منه شيئا يرد كتابة. واعتبر قديسا

في فناء الكنيسة المحاط بأشجار السرو الشاهقة وأشجار الزيتون القديمة، يسير الرجال في عباءات سوداء، والنساء في أردية بيضاء أو سوداء، يتدفقون بشكل يكاد يكون غير محسوس، لا يقطع الهدوء سوى أصوات الطيور. الهدوء يستمر حتى منتصف النهار. ثم يبدأ ببطء تجمع الرجال والنساء، الذين يحيون بعضهم بعضا، وهم يجتمعون لتناول وجبة طعام مشتركة

في السنوات الأخيرة، اجتذب الحج إلى القدس المزيد من الناس من إثيوبيا، ولكن المجتمع الإثيوبي في القدس ما زال ضعيفا، يناضل من اجل الاستمرار في الحفاظ على هويته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top