سحمر قاع الدم الأول( 13 )

بعد أن غطت العتمة المكان تسللت زوبا باتجاه كومة التبن وسحبت سلة الذخيرة .ومضت
لتتفق مع جارهم علي ليجهزَ أتانه ببعض الأعشاب وبعض المواد الغذائية وبساط . ويرسلها مع ابنه الصغير لينتظرهم عند رأس المنحدر المؤدي للنهر. .
وحين تنفس الفجر انطلقت الصبيتان . ترتديان لباساً قروياً فضفاضاً .وقد غطت كل منهما شعرها بوشاح صغير يظهر مقدمة الرأس ونهايات الشعر التي كانت تلمع فوق الكتفين . ورغم الحذر والقلق والخوف الذي يراودهما . كانتا تخفان برشاقة فراشة تتراقص في الحقول . كيف لاوسراب ستلتقي ( الأمين ) هذه المرة بعد غياب طويل وستثبت له أنها تحبه ومستعدة ان تعرِّض نفسها للموت في سبيله. .
كانت سراب جميلة يمكن ان تُروى في جمالها الأساطير , وزوبا التي تكبرها سناً كان قوامها معتدلا ,ووجهها حاد الملامح وقد رسمت حاجبيها بأناقة رسام .وكلما اقتربت سراب من الأتان لتلكزها حين تتوقف ترفع أنفها . فرائحة التبن لازالت عالقة بها . وتعود لتتنشق رائحة زجاجة العطر التي أفرغتها على ملابسها قبل الانطلاق .
وماأن وصلت الفتاتان إلى رأس المنحدر , حتى أطلقتا الأتان لتتابع سيرها وحيدة باتجاه النهر. ثم وقفت سراب تراقب المكان , بينما زوبا تتابع النزول نحو الكهف وهي تصفر صفرتها المعتادة . ربطت سراب السلة بالحبل وقبل أن تنزلها كان ( الأمين ) يخرج من الكهف . فشعر بالخيبة لأنه وجد زوبا وحيدة دون ” سراب ” .
رحبَّ بزوبا وقد بهتت ملامحه .فقالت : سراب فوق لاتستطيع النزول . بينما دخلت هي الكهف وبدأت تسحب الدم من ذراع كرّار في الحال .وهي تقول يجب ان لانتأخر فالإسرائيليون يسألون عن ياسر وواحد اسمه ثائر لم أعرفه وعن الأمين . تجاهل الأمين ماسمعه عن ثائر وكأنه لايريدها أن تسأل عنه وتقدم خطوات نحو الأمام يهيء الكلمات التي سيقولها لسراب وينمقها . وقبل ان تنزل قال : :
ـ كنتُ واثقاً انك لن تخذلينا .إشتقتُ لك كثيراً , ولم أتمكن من دخول القرية لأنني مطلوب من الاسرائيليين منذ أول عملية قام بها رفيق لنا . لقد قلقتُ عليكِ كثيراً وخشيت أن تغادري مع عائلتكِ لبيروت .أحبكِ ..قالت سراب بعد أن جلست على حافة صخرة : تنَاوَلْ السلة أولاً ..ستتكسَّر ذراعيَّ فهي ثقيلة جداً .أنزلت السلة بعناء . فتناولها الأمين . ثم ارتاحت وهي تُنَقِّل عينيها بحذر في كل الاتجاهات بينما الأتان بعيدة ترعى العشب الأخضر الندي عند ضفة النهر . لكنَّ ( الأمين ) تسلق بسرعة نحو الأعلى إذ لم يقاوم حضورها مخالفاً التعليمات . اقترب منها وأمسك يدها . قبَّلها من جبينها فازداد احمراروجنتيها خجلاً .
خرج الزغلول وحمل السلة للداخل ليعاين قطع الذخيرة .متظاهراً بعدم رؤية سراب
في لحظة كاد (الأمين) أن يحضنها . فدفعته عنها ,ونزعت يديها, وقالت : ـ هيا ياأمين قل لزوبا : إنه علينا ان نعود قبل أن تصبح الشمس قوية .فالمكوث الطويل هنا قد يعرضنا جميعاً للخطر والأتان تبتعد ثم مشت بالاتجاه المعاكس . .
ـ لا يا ” سراب ” أرجوك لاتذهبي ..تعالي انزلي معي لن يراك احد .شدها الأمين من يدها .نحو صدره .كان قلبها يدق بعنف من الخوف , لكن أنفاسها كانت حارة جداً .حاولت النظر في عيني الأمين البنيتين الوديعتين وهو يشدها نحو المنحدر فقالت : :
ـ المنحدر خطر هنا وأخشى ان أنزلق نحو الماء فمن سينتشلني ؟
ـ لن تغرقي أنت تجيدين السباحة أكثر مني .
ـ خسئتَ أنت مقاتل وعليك ان تكون سباحاً ماهراً. .
سحبها بقوة نحو صدره , فتقابل وجهاهما . كانت أنفاسه حارة كالبركان . وقد جهد كي يزيل رائحة الدخان قبل حضورها . قال:
ـ عندما يكون التيار قوياً لايمكن مقاومته . فسحبت يدها ولكزته على كتفه بغنج:
ـ ( منشان ربك ليس وقت تنظيراتك الآن ) ..
ليس لدينا متسع من الوقت .قلبي سيسقط بين قدمي من الرعبة .هيا عَلِّمْني كيف أنزل ؟ فوضع قدمه عند أول مرتكز قائلاً : تنزلين بهذه الوضعية وقد أسند ظهره على حافة المنحدر. خرجت زوبا من الكهف وهو يثبِّتُ يديه على النتوءات الصخرية في الجانبين ) .وتابع قائلا: وتثبتين قدمك اليسرى هنا . (مشيراً إلى النتوء الأيسر العلوي )
.وتهبطين بهدوء . فتهادى إلى سمعه صوت مروحية بعيدة, فزُلَتْ قدمه وسقط في الفسحة. ودخل الكهف مسرعا وهو يتحامل على الألم الذي سببه دخول الشوكيات في مؤخرته . هلعت سراب .وامتلك الخوف قلب زوبا وصاحت على سراب
ـ اذهبي باتجاه الأتان بسرعة وتظاهري بقطف الأعشاب وسأوافيكِ سريعاً .
انتظرت زوبا ابتعاد المروحية ثم
صعدت متسلقة الصخور وقلبها ينبض بين أضلاعها ككرة في تصفيات نهائية . وفي وقت قياسي كانت زوبا وسراب قد ابتعدتا عن الكهف تماماً والمروحيات الإسرائيلية تغزو وادي النهر صعوداً وهبوطاً , ثم تغادر المكان . وقد امتطت الفتاتان ظهر الأتان الذي فرغ من المؤونة والابتسامات تغزو كل من وجهيهما استبشاراً بنجاح مهمتهما .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top