تأبط الحسين لوحته الخشبية بعد تقبيله يد الفقيه السي أحمد مرتين. وربت هذا الأخير على كتفه مهنئا إياه بهذا الانجاز الكبير. فالتفت الحسين مبتهجا صوب والده, ثم هرول لتقبيل يده و رأسه مرات متتالية. نجاحه هذا في اجتياز عقبة ” التزويقة” أو “البقرة الصغيرة ” (*) كما تسمى في بعض المناطق لم تمر بسهولة.
تموقع بيته خارج الدوار كان يحتم عليه قطع مسافة ليست بالهينة للوصول كل يوم الى المسيد و المثول أمام الفقيه السي أحمد.
كان الحسين مواضبا على الحضور رغم وعورة المسالك و قساوة الجو و ضعف الامكانات. جلبابه المتهرئ , الذي ورثه عن أبيه و يلازمه صباح مساء أضحى متأقلما مع فصول السنة. يقيه من حرارة الشمس في الصيف و يحاول حماية جسمه النحيف من قساوة البرد في الشتاء. لونه الحقيقي اندثر و تغير بفعل تقلبات الجو و القدم. أصبح جلبابا لا لون له. أما فلقة الفقيه السي أحمد وما أدراك ما الفلقة فكانت هي المعضلة الكبيرة التي لا حيلة و لا دواء لها. فاذا تلعثم الحسين في ترديد الآية التي نسخها بالصلصال على لوحته الخشبية – و هذا ما يحدث باستمرار – فيضطر المسكين لرفع قدميه و الاستسلام للذغات قضيب الفقيه الحارقة. واياه ثم اياه أن يكتشف أمره من طرف والده. و الا سينال عقوبة ثانية! آثار قضبان الفقيه السي أحمد تظل مرسومة باستمرار على جسد الحسين.
ولا داعي للتطرق لنوعية الغذاء الذي يحمله معه. فقطعة الخبز تبقى في الغالب هي الوجبة الوحيدة التي ترافقه كل يوم. اللهم في بعض الحالات الخاصة, كالأعياد مثلا , حيث ترفق قطعة الخبز هذه بأحد أعضاء الدجاج المتبقي من البارحة. أو بعض حبات الزيتون في موسمه تضفي مذاقا جديدا لقطعة الخبز الحافية. فيقبل يد أمه يامنة تقبيلا ليعبر لها عن مدى غبطته.
تواضب الحسين على حفظ القرآن لم يكن اختياريا. فقرار أبيه لا يمكن أن يناقش بأي شكل من الأشكال . هذا من جهة, ومن جهة أخرى انعدام أي بديل آخر في المنطقة حتم على الحسين الانصياع للأمر الواقع! انها حياة عادية و بسيطة يعيشها أهل هذه المنطقة. روتين مستمر. بمجرد بلوغ الأطفال سن الثانية أو الثالثة يزج بهم في حضن المسيد. صغارا وكبارا في ” فصل” تختلط فيه الروائح المتنوعة و المنبعثة من كل الجهات. هذه الروائح التي تحاول البحث عن منفذ للخروج و لكن بدون جدوى. فتعود مرة أخرى للاستنشاق من جديد. خصوصا في أيام البرد حيث يقفل الباب و هو المتنفس الوحيد لتلك الأنفاس المكدسة داخل بضعة أمتار. فيغلب النعاس على بعضها و سرعان ما تعود لوعيها باكية من شدة ألم القضيب الذي يعكر عليها تلك اللحظة. في هذه الحالة بستقي الفقيه القضيب المناسب في الطول للوصول الى هدفه.
هذا هو نمط حياة أغلبية الأطفال في بداية حياتهم بهذه المنطقة. بعدها تأتي مرحلة الاشتغال بالفلاحة أو في بعض الحالات النادرة البحث عن عمل خارج المنطقة.
هل سيختلف مصير الحسين عن باقي أقرانه؟
جرت العادة بعد التفوق في اجتياز ” البقرة الصغيرة” أن يطوف طلاب المسيد على منازل الدوار. حيث يغذق عليهم ببعض النقود أو بمنتوجات محلية كالبيض و التمر.
نظر الحسين الى صديقه المعطي بعدما رأى تسابق الحشد الكبير من الطلاب اتجاه بيوت الدوار للظفر بجمع أكثر ما يمكن من الدريهمات. واقترح عليه القيام بنفس المهمة و لكن في دوار آخر بعيدا عن دوارهم. كانت هذه هي بداية المغامرة .
لم يسبق للحسين أن تخطى حدود المنطقة لوحده. لقد سبق له زيارة بعض الدواوير المجاورة أثناء ذهابه للسوق الأسبوعي. ولكن دائما رفقة أبيه. هذه المرة دون رفقته و دون علمه أيضا.
الحسين ابن الثانية عشرة سنة يقدم لأول مرة على تكسير الحواجز.
كانت الطريق جد متعبة و طويلة, اضطر على إثرها الحسين التوقف عدة مرات لاسترجاع أنفاسه المنهكة في غياب ماء يروي به عطشه أو أي شيئ يسد به رمقه. غنيمة البيت الأول التي كان الأمل معلقا عليها كانت عبارة عن بيضتين. ولكن شربة الماء أطفأت ظمأه و هدأت من روعه.
شكرالحسين صاحب البيت و تابع طريقه صحبة المعطي في اتجاه البيت الموالي.
ازداد تعب الحسين وهو يتنقل من بيت لبيت في طريق كلها شعاب ومنعرجات. و كان من حين لحين يتفقد الحصيلة التي أودعها في قب جلبابه. في نفس الحال بدأت الشمس تستعد للغروب. تابع الحسين سيره محتاطا من هجمات الكلاب الضالة التي تكشر عن أنيابها كلما واجهته. وبدا جليا بعد مدة قصيرة استحالة طرق باقي الأبواب في هذه الأجواء التي أصبح فيها الظلام ينتشر بسرعة.
تمعن من جديد في وجه صديقه الشاحب و أطلق عنان بصره من حيث أتى:
” لا نستطيع أن نعود الى دوارنا في هذه الساعة”. مضيفا : ” الطريق طويلة و مظلمة. هل أنت أيضا متفق معي؟”
بعدما طأطأ صاحبه رأسه مبديا موافقته, ارتمى على الأرض. تفحص من جديد حصيلة القب. أعد الدريهمات و هي تتصبب زيتا . فتابع التنقيب عن مصدر الزيت. حيث عثرعلى رغيفة صغيرة اقتسمها مع صديقه.
و أطلق العنان للتفكير.
لابد أن والديه الآن في حيرة. يتوقع أن ينزل اباه بفانوسه الزيتي الى قلب الدوار للبحث عنه في كل مكان. كما يتوقع أن أمه لن يغمض لها جفن هذه الليلة الا بعد العثور عليه. و الشيئ الأكيد الذي يتوقعه هو ” السلخة” التي سيتلقاها من والده عند ملاقاته.
” لدي فكرة!”, قاطعه صديقه. ” سنبحث أولا عن مسجد هذا الدوار لنقضي فيه الليلة”
حبذ الحسين الفكرة ثم انتفض قائما و هو يحاول ادخال بلغته , أو قطعة الجلد المتبقية منها , في رجله. ثم أسرع في المشي للعثور على المسجد قبل صلاة العشاء. والا فسيصعب الأمر.
وكما هو الحال في جميع الدواوير, فالمسجد هو المؤسسة الوحيدة التي لا تخفى على أحد. صغيرا كان أم كبيرا.
فبمجرد ولوجه باب المسجد بادره أحد المصلين بالسؤال:
” من أين أنتم؟”
شيئ طبيعي أن يتساءل المصلون عن هذان الوافدان الجديدان على المسجد. و انضم إمام المسجد أيضا للاستفسار عن الوضع.
و في الأخير سمح للحسين وصديقه بالمبيت هذه الليلة في المسجد. فقام الجميع للصلاة بعد تأدية الآذان, غير أن ذهن الحسين ظل شاردا. لقد تذكر إحدى الحكايات التي قصها عليه جده حول المساجد. هذه الأخيرة تتخذ بمتابة مستودع للأموات في الليل. فإذا تعذر دفن الميت نهارا, سيضطر لقضاء الليل في المسجد.
هذه الحكاية كان لها وقع كبير على الحسين. جعلته ينسج حولها تخيلات مرعبة. كنهوض الأموات ليلا من كفنهم و التجول في أرجاء المسجد. فازداد تخوفه.
ولكن ماهو البديل؟
أحس الفقيه بالخوف الذي انتاب وجه الحسين. واقترح عليه الذهاب معه للبيت لقضاء الليلة هناك. على أن ينام فوق سطح الدار . لأنه لا يملك الا غرفة واحدة ينام فيها هو وزوجته. سطح الدار عبارة عن أرض مستوية, لا يحدها سور أو حاجز من الجوانب.
تذكر الحسين ما تقوله أمه حول عادته في النوم. فهو لايهدأ من التقلب في فراشه من مكان الى آخر.
و ماذا عساه أن يفعل اليوم؟
اقتسام المبيت في المسجد مع الموتى أو امتطاء السطح مع خطورة الوقوع على الأرض؟
يتبع!
(*)” التزويقة” أو “البقرة الصغيرة ” : لما المحضري يحفظ مقدارا من القرآن.